منذ بداياتي في متابعة الصحافة، كنت مفتونًا بتلك الصفحات التي تتكلم أكثر مما تكتب، حيث تتقاطع الخطوط مع الرموز، وتتشابك الألوان مع الأرقام في هندسة بصرية تستدرج العقل قبل العين. لم يكن ذلك مجرّد ترف بصري، بل هو فتح معرفي جديد، أصبح اليوم يُعرف بوضوح باسم "الإنفوغرافيا التفاعلية"، أحد أكثر الأشكال تأثيرًا في المشهد الإعلامي الرقمي المعاصر.
حين ننظر إلى الإنفوغرافيا التفاعلية بوصفها أداةً سردية، فإننا لا نتحدث فقط عن تصميم جميل، بل عن طراز جديد من الكتابة الصحافية، حيث تنتقل القصة من التلقي الخطي إلى التلقي المُشارك. وبدلاً من أن يُحاط المتلقي بسيل من المعطيات التي قد تُفقده الانتباه، يتم دعوته للتفاعل معها، تفكيكها، إعادة ترتيبها، بل وأحيانًا، تأويلها بما يناسب معارفه وسياقه الثقافي.
لقد غيّرت الإنفوغرافيا
التفاعلية — كما لاحظ «ألبرتو كايرو» في كتابه
"The
Functional Art" — العلاقة بين الصحفي والقارئ. فالصحفي لم يعد فقط
ناقلًا للمعلومة، بل مصمم تجربة معرفية، يصوغ "نصًّا" متعدّد الطبقات، لا
يُقرأ بعيْن واحدة، بل يُستكشف بفضولٍ حيّ.
أدركت هذا التغير بشكل
ملموس خلال الجائحة، حين انغمست في تتبّع خريطة انتشار فيروس كورونا، كما قدّمها موقع ««"The New York
Times" أو ««"Our World in
Data"««. لم تكن الأرقام مجرد بيانات، بل كانت دينامية، تتحرك
على الشاشة مثل كائنٍ حيّ، تظهر فيها الفوارق الزمنية والمكانية، مما جعل من المتصفح
نفسه مشاركًا في صنع المعنى، لا مجرد قارئٍ سلبيّ. وهذا بالتحديد ما يمنح الإنفوغرافيا
التفاعلية بعدًا بيداغوجيًا، يتجاوز التلقي العادي إلى بناء معرفة حية.
إن جوهر هذه التحوّلات
التقنية لا يمكن فصله عن التحوّلات الفلسفية في فهم الصحافة نفسها. فـ"النص"
لم يعد كيانًا لغويًا مغلقًا، بل أصبح فضاءً متعدد الأبعاد، كما في مفهوم «رولان بارت»
الذي تحدث عن "النص المفتوح"، القابل للقراءة بعدة مستويات. والإنفوغرافيا
التفاعلية، بهذا المعنى، تمثّل نوعًا من "النص البصري"، الذي يدعو القارئ
لتأويل، وربما، لإعادة كتابة ما يراه.
لكن ثمة ما هو أبعد
من الجمالية والتفاعلية. فحين يُوظَّف هذا الشكل البصري في قضايا حساسة — كالفقر، أو
التغير المناخي، أو الانتخابات — يصبح أثره الإعلامي والسياسي هائلًا. فعلى سبيل المثال،
استطاعت صحيفة «El
País» الإسبانية،
عبر سلسلة من الإنفوغرافيات التفاعلية عن الجفاف في إسبانيا، أن تجعل من الأزمة قضية
رأي عام، لأنها أظهرت — بالصورة، والحركة، والمقارنة اللحظية — ما عجزت عنه المقالات
المطوّلة.
ولعل ما يُثير اهتمامي
أكثر هو الدور الأخلاقي لهذه التقنية. فالتفاعلية ليست بريئة، وقد تَستخدمها بعض المؤسسات
للإبهار أكثر من الإخبار، أو لتوجيه الرأي العام بناء على انتقاء البيانات دون السياق
الكامل. وهو ما نبه إليه «إدوارد تافت»، أحد أبرز منظّري التصميم البصري، حين قال إن
"أجمل الإنفوغرافيات ليست دائمًا أصدقها". لهذا، من واجبنا كصحفيين، أو كصانعي
محتوى، أن ننتج إنفوغرافيا لا فقط تشدّ الانتباه، بل تفي بوعد الحقيقة.
الصحافة المغربية،
من جانبها، بدأت تخطو ببطء في هذا المجال، لكن الطريق لا يزال طويلاً. فرغم مبادرات
واعدة من منصات مثل «Le360»
أو «هسبريس»، إلا أن غياب البيانات المفتوحة، والكوادر
المتخصصة في التصميم التفاعلي، يحد من قدرة الصحافة المغربية على المنافسة عالميًا
في هذا المضمار. لقد أصبح من الضروري — لا مجرد ترف — أن يُدرّس هذا النمط في معاهد
الإعلام، وأن يُستثمر فيه داخل غرف الأخبار، حتى لا تبقى صحافتنا أسيرة القوالب الورقية
في زمن تفاعلي بامتياز.
أستطيع أن أزعم، من
موقع تجربتي وملاحظتي، أن الإنفوغرافيا التفاعلية ليست مستقبل الصحافة، بل هي حاضرها
المتحوّل. وأي مؤسسة إعلامية تتجاهل هذا التحول إنما تحكم على ذاتها بالانقراض البطيء،
مثل ديناصورات لم تصدق أن الهواء قد تغير.
لذلك، فأنا لا أقرأ
اليوم الخبر فقط، بل أتحرك بداخله. أبحث عن زرّ صغير يكشف خريطة، عن سهمٍ يغير الزمن،
عن لونٍ يتحوّل إلى رقم، لأنني — مثل كثير من القرّاء الجدد — لم أعد أكتفي بما يُقال،
بل بما أستطيع أن أكتشفه بنفسي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق