الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، مايو 15، 2025

قراءة في كتاب ميشيل فوكو وأركيولوجيا المعرفة: ترجمة عبده حقي


منذ اللحظة الأولى التي يُمسك فيها القارئ بكتاب «ميشيل فوكو» "أركيولوجيا المعرفة"، يشعر وكأنه يدخل مختبرًا فكريًا يعيد ترتيب ما اعتقد أنه "بديهي" في عالم الفكر والمعرفة. فالكتاب ليس أطروحةً أكاديمية تقليدية، ولا سردًا فلسفيًا مكرورًا، بل هو محاولة شجاعة لتحطيم ما يسميه فوكو بـ"استمرارية الخطاب"، وسبر أغوار ما يُقصى عادة من التاريخ واللغة والمعرفة.

إن فوكو، الفيلسوف الفرنسي الذي ارتبط اسمه بالنقد الجذري للحداثة الغربية ومفاهيم السلطة والمعرفة، يفتح في هذا العمل جبهة جديدة ضد الأسس الإبستمولوجية التي قامت عليها العلوم الإنسانية. فهو لا يبحث في ما تقوله النصوص، بل في ««الطرق التي يُسمح فيها بالكلام»، في الشروط التي تجعل من خطابٍ ما قابلاً للظهور والتموضع في فضاء المعرفة. هنا، يولد مفهومه المركزي: «"الأركيولوجيا «.

ما المقصود بـ"أركيولوجيا المعرفة"؟

يستعير فوكو هذا المصطلح من علم الآثار، لكنه يُفرغه من محتواه التقليدي ليعيد تشكيله في سياق معرفي. فالأركيولوجيا لديه ليست عملية تنقيب عن "أصل" الحقيقة، بل «تفكيك الطبقات الساكنة التي تُراكم الخطابات فوق بعضها، دون أن تسائل شروط تشكُّلها». إنها ليست محاولة لتفسير "المعاني"، بل لتشريح شروط إنتاجها.

في هذا السياق، يرفض فوكو فكرة "المؤلف" كسلطة مطلقة على النص، ويهاجم تصور التاريخ كتسلسل عقلاني خطي. ويُقدِّم بدلًا من ذلك مفهوم "التشكيلات الخطابية"  (formations discursives)  التي تشكّل إطارًا معرفيًا يُحدّد ما يمكن التفكير فيه وما يجب إقصاؤه. الخطاب ليس أداةً شفافة لنقل الحقيقة، بل «بنْية تحكم وتخضع وتنظّم».

القطيعة المعرفية بدلًا من الاستمرارية التاريخية

يُعارض فوكو الفرضيات الكلاسيكية التي ترى في المعرفة سيرورة تراكمية تسير نحو التقدم. إنه يرى التاريخ لا كسيرورة عقلانية، بل كمجالٍ تُهيمن عليه «"القطائع المعرفية  (ruptures épistémologiques) —  لحظات فاصلة يتم فيها ««تغيير القواعد التي تُنتج بها المعرفة ذاتها». فالمعرفة لا تتطور، بل تُعاد صياغتها ضمن قواعد جديدة في كل مرحلة.

هنا يبدو أثر «غاستون باشلار» واضحًا، لكن فوكو يتجاوز الفلسفة العلمية إلى مجال الخطاب بأبعاده الثقافية والسياسية. لا يسعى فوكو إلى فهم كيف تحسّنت المعرفة أو صَحَّت، بل إلى ««كشف الآليات التي جعلت نوعًا معينًا من الكلام ممكنًا»، وأخفت أنماطًا أخرى كانت محتملة.

تحليل الخطاب: من الذات إلى الشروط الخارجية

من النقاط الجوهرية في هذا الكتاب، أن فوكو ينزع «الذات العارفة» من موقعها المركزي، ليضع محلّها "الشروط الخارجية" التي تحدد ما يمكن التفكير فيه. فالخطاب لا ينبع من نية مؤلف، بل من «مصفوفة معرفية/سلطوية» تتحكم في إنتاجه. وبهذا المعنى، فإن "أركيولوجيا المعرفة" تمثل خروجًا جذريًا من النزعة الإنسانية التي ظلت تؤمن بحرية الفكر وفاعلية العقل.

ولعل هذا ما جعل من الكتاب عملاً إشكاليًا، صعب التصنيف، لا يندرج بسهولة ضمن المناهج الكلاسيكية للنقد أو الفلسفة أو حتى اللسانيات. إنه كتاب يخلخل أكثر مما يُطمئن، يفتح الأسئلة بدلًا من تقديم الأجوبة.

أثر الكتاب وأهميته في الحقول المعرفية

لقد أحدث كتاب فوكو عند صدوره سنة 1969 صدمة في الأوساط الفكرية، خاصة في فرنسا التي كانت لا تزال تعيش إرهاصات ما بعد البنيوية. وقد شكل هذا العمل نقطة تحول بين "فوكو المبكر"، الذي اشتغل على الجنون والعيادة، و"فوكو اللاحق" الذي سيتناول موضوعات السجن، والجنسانية، والسلطة.

لقد تأثر به لاحقًا مفكرون من مختلف التخصصات: من «إدوارد سعيد» الذي استفاد من تحليل الخطاب في «الاستشراق»، إلى «غاياتري سبيفاك» في نقدها لما تسميه بـ"الذات الإمبريالية"، إلى مفكرين في الإعلام، والدراسات الثقافية، وحتى في علم النفس النقدي.

نقد داخلي: ما الذي يمكن أن يُقال ضد فوكو؟

رغم عمق الطرح وتماسكه النظري، لم يسلم الكتاب من النقد. فقد اتُّهم فوكو أحيانًا بالغموض، وبالقطيعة المُفرطة مع مفاهيم مثل الحقيقة والعقل. كما أن إصراره على إقصاء الذات، ورفضه لأي نزعة إنسانية، جعله عرضة للانتقاد من طرف فلاسفة مثل «يورغن هابرماس»، الذي رأى في مشروعه "تشاؤمًا معرفيًا" يُفرغ إمكانات التغيير من مضمونها.

لكن فوكو، بطريقته الهادئة والمراوغة، لم يكن يسعى إلى بناء منظومة، بل إلى هدمها، وإلى دفع الفكر إلى إعادة مساءلة المسلمات، وهو ما يفسّر استمرارية تأثيره حتى اليوم في الحقول الأكاديمية.

خاتمة: قراءة داخل الفراغات

"أركيولوجيا المعرفة" ليس كتابًا يُقرأ من أجل الاطمئنان إلى حقيقةٍ ما، بل من أجل «قراءة الفجوات، المسكوت عنه، والمقصى من الذاكرة الجماعية». إنه عمل يعلّمنا أن «ما نعتبره معرفةً ليس سوى أثر لصراعات غير مرئية، ولخطابات انتصرت على غيرها». في زمنٍ تتزايد فيه خطابات الحقيقة المطلقة، يعيدنا فوكو إلى أهم درس: أن نضع علامات استفهام داخل كل يقين.

0 التعليقات: