حين أكتب، لا أكتفي بالصوت والصورة، بل أطمح إلى ما هو أبعد: أن يلامس النص خدّ القارئ، أن تلامس الكلمات جلده كما تلامسه الريح، أن تشم رائحة المقهى في الفقرة، وأن يتذوق مذاق البرتقال في استعارة. قد يبدو هذا الحلم ضرباً من الجنون، لكنه اليوم، في زمن التقنية الحسية المتقدمة، بدأ يتخذ ملامح الواقع شيئاً فشيئاً.
إن فكرة الأدب الذي يُخاطب الحواس الخمس ليست جديدة. منذ الأزمنة الأولى، سعت اللغة إلى تقليد العالم، إلى نقله لا عبر الصورة المجردة فقط، بل عبر الإحساس به.
إننا نقرأ نزار قباني
ونشم عطر الياسمين الدمشقي، نقرأ غارسيا ماركيز ونتذوق رطوبة المانغا المتعفنة في ساحل
الكاريبي، نقرأ الطيب صالح ونشعر بحرارة الرمل السوداني يلسع أقدامنا. لكن هذا الإدراك
ظل، إلى وقت قريب، محصوراً في خيال المتلقي، في استعداده الذهني لتفعيل الذاكرة الحسية.
ماذا لو أخرجنا هذه الحواس من سجن الخيال وجعلناها تتجسد فعلياً في النص؟
مع التطور السريع في
تقنيات الواقع الافتراضي (VR) والواقع المعزز (AR)،
بدأت تظهر محاولات أدبية تُجرب أن تكون أكثر من نصوص تُقرأ. بدأت المشاريع التجريبية
التي تُدخل العطر والملمس في التجربة النصية، مثل مشروع "Sensorium" الذي أطلقته شركة "FeelReal" في الولايات المتحدة، والذي يسمح بتركيب جهاز
يُضيف الروائح والاهتزازات إلى الفيديوهات. وتخيل معي كيف يمكن لهذه التقنية أن تنتقل
إلى كتاب رقمي، تُقلب صفحاته لا بإصبعك فقط، بل بأنفك ولسانك وجلدك.
قد تبدو الفكرة مستفزة
لمن لا يزال يرى الأدب جنّة الكلمات الخالصة، ذلك الصرح النقي الذي لا يجوز تلويثه
بعبثية التكنولوجيا. لكني أجد نفسي، ككاتب مغربي يعيش عصر التحوّل، مدفوعاً لتجريب
هذا الاندماج. إننا أبناء الحكاية الشفوية، أبناء خبز التنور ورائحة الحناء، فهل نكتفي
بأن نكتب بالأسود على الأبيض؟ لماذا لا نكتب بألوان الطباشير على جدران العقل، وبعطور
الزعفران في ذاكرة الأنف؟
الكاتب الأمريكي «دون إهدي» في كتابه "Technology and the Lifeworld" يسلط الضوء على العلاقة بين التكنولوجيا والحواس،
مبيناً أن كل وسيلة تقنية لا تعيد إنتاج الواقع فقط، بل تعيد تشكيل إدراكنا له. فإذا
كانت الطباعة قد اختزلت الحكاية إلى البصر، فإن العصر الرقمي يمنحنا فرصة لإعادة توزيع
الحواس، لإرجاع الطعم واللمس والرائحة إلى حضن السرد.
لا أقترح هنا أن تُستبدل
الكلمة بالعبوة العطرية، أو أن يتحول الشعر إلى لعبة إلكترونية. ما أقترحه هو أدب رقمي
حسي، يتداخل فيه الحرف مع الذبذبة، والجملة مع العطر، والفاصلة مع ملمس الورق المبتل.
تخيلوا قصة قصيرة تُقرأ على شاشة هاتف، ومع كل مشهد يتبدل العطر الذي ينبعث من الجهاز:
الخزاما في مشهد القرية، القهوة في مشهد الحزن، وماء البحر في مشهد العناق.
في المغرب، حيث تتعايش
الحواس في كل تفاصيل الحياة، من سوق الخضر إلى زقاق فاس، من عطر العنبر في مساجد مراكش
إلى خشونة الجلباب في عرس أمازيغي، يصبح هذا الأدب الحسي تجسيداً حقيقياً لهويتنا المركبة.
إننا شعب نأكل الكلمة ونسمع الطاجين. لذلك لا بد أن نعيد تعريف الأدب، لا ككلمات تُقرأ
فقط، بل كحواس تُفَعّل.
لقد بدأ بعض الفنانين
بالفعل خوض هذه التجربة. الروائية اليابانية «ساياكا
موراتا»
استخدمت في أحد عروضها
الرقمية تقنية «Smell-o-Vision»
لإشراك القرّاء في
تجربة جسدية للرواية. وفي العالم العربي، لا تزال هذه المشاريع نادرة، وربما هذا هو
التحدي والفرصة في آن: أن نكون أول من يكتب للعطر، أول من ينقش الذكرى على جلد المتلقي.
في النهاية، لا أطرح
هذا الطرح من باب التجريب البارد، بل من باب الشغف. أؤمن أن التكنولوجيا، حين تتقاطع
مع الإبداع، لا تقتله بل تحرّره من قوالبه القديمة. أريد أن أكتب قصة يُمكن للضرير
أن "يراها" بشمّها، وللصامت أن "ينطقها" بلمسها، وأن يُصبح الأدب
المغربي، كما كان دائماً، جسداً حيّاً يتحرك في الزمن، ينبض بالحواس، ويستدعي ذاكرة
المكان.
هل تظنون أن ذلك مستحيل؟
لا، فقط يحتاج إلى قليل من الجنون، وكثير من الليمون والحنين.
0 التعليقات:
إرسال تعليق