الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، مايو 13، 2025

نحو أدب رقمي مُتعدِّد الحواس: عبده حقي


منذ أعوام قليلة، وأنا أتابع بدهشة التغيرات الجذرية التي يعرفها الأدب، ليس فقط في أدوات إنتاجه، بل في بنيته ذاتها. لم يعد النص الأدبي حبيس الورق أو الشاشة، بل صار يتنفس، يتغير، يتفاعل. والأكثر إثارة للدهشة، هو ولادة ما يمكن تسميته بـ "الأدب الحسي الرقمي" أو «الأدب التشابكي المتزامن مع الحواس»، حيث تتغير القصة، أو تتحول القصيدة، حسب الموسيقى المحيطة أو شدة الضوء أو حتى اللون السائد في المكان.

لم أعد أكتب القصيدة كما كنت أفعل في دفتري القديم بمقاهي مكناس، بل بتطبيقات تراقب ذبذبات الصوت في الغرفة وتغير النص كلما تغير الإيقاع. في إحدى التجارب الحديثة، جربت قراءة قصة قصيرة على تطبيق يستخدم مستشعر الضوء، فكانت الجمل تتغير حين أطفئ المصباح، وتتحول إلى نبرة سردية غامضة حالكة، بينما تعود إلى بساطتها الواقعية حالما يشتد الضوء. بدا النص كما لو أنه يتنفس معي، أو كما لو كان "يُعدِّل قناعَه" كما كتب «ميشيل بوتور» ذات مرة عن الرواية الحديثة.

الفكرة في جوهرها ليست جديدة بالكامل. لقد تحدث «مارشال ماكلوهان» عن الحواس والوسيط في كتابه الشهير «The Medium is the Message»، وبيّن أن لكل وسيط تأثيره الحسي والمعرفي على الإنسان. لكننا اليوم لا نتحدث عن تأثير الوسيط على القارئ فحسب، بل عن تأثير القارئ على النص نفسه، أو بالأحرى عن نص حي، يتلوّن حسب بيئة القارئ الحسية.

في تجربة أدبية رقمية طورتها جامعة ميشيغان سنة 2022، وُظِّف الذكاء الاصطناعي في إنشاء قصص تفاعلية تتبدل حسب الخلفية الصوتية للبيئة. فعندما كان القارئ يضع سماعات ويشغّل مقطوعة كلاسيكية هادئة، تتجه القصة نحو التأمل والسكون، بينما تنزاح نحو التوتر أو الرعب حين تُسمع موسيقى إلكترونية سريعة. هذا النوع من التفاعل يفتح آفاقًا غير مسبوقة لخلق تجارب أدبية فردية تمامًا، إذ لن يقرأ شخصان القصة نفسها بالشكل نفسه، حتى لو كانا أمام نفس الشاشة.

ما يحدث هنا هو نوع من «السينِسْتِيزيا» الرقمية، أي المزج بين الحواس لإنتاج تجربة أدبية مركبة، حيث تصبح الرؤية جزءًا من اللغة، والصوت حافزًا لتحول السرد، والضوء مشهدًا داخليًّا. لقد كتب «أوكتافيو باث» عن الشعر بوصفه "حالة بينية بين الصوت والمعنى"، لكننا اليوم صرنا نتحدث عن حالة بينية بين الحواس والرمز، بين الضوء والحبكة، بين اللون والشخصية.

ومن جهة أخرى، فإن هذه الظاهرة تطرح أسئلة نظرية معقدة حول مفهوم "النص"، كما عرفناه مع «رولان بارت» و»دريدا». هل لا يزال النص "مغلقًا" أو "مفتوحًا"؟ أم أنه صار سائلًا، يتشكل من جديد في كل لحظة، بحسب السياق الحسي للقارئ؟ ثم، كيف يمكن للكاتب أن يضبط هذا التفاعل؟ هل يفقد السيطرة على نصه، أم أنه يعيد اكتشاف الكتابة بوصفها تركيبة موسيقية-ضوئية-لغوية؟

إن المخاطر موجودة طبعًا. فكما أن هذا الأدب الجديد يحمل وعودًا بخلق تجربة غامرة، فإنه قد يُفضي إلى تَشَظِّي المعنى. لن تكون هناك "قراءة نهائية" للنص، بل تأويلات لا تنتهي، مرهونة بظروف متغيرة، وهو ما قد يربك التلقي النقدي ويضعف إمكانيات التحليل الثابت.

ومع ذلك، لا يسعني إلا أن أرى في هذا الشكل الجديد امتدادًا طبيعيًا لحساسية ما بعد الحداثة، التي تُقوّض مركزية الكاتب وتُحرِّر النص من سلطته، بل وتمنحه "جلدًا حساسًا" يتأثر بالضوء والموسيقى والذبذبات. لقد صارت القصيدة كائنًا هُلاميًا، لا تُقرأ، بل تُعايَش.

هل يمكن لهذا الأدب أن يترسخ في العالم العربي؟ في رأيي، لا شيء يمنع ذلك سوى التخلف التقني والنفسي الذي لا يزال يحصر الإبداع في قوالب جامدة. الأدب المغربي، بما يحمله من طاقة صوفية، ومن ولع بالمخيال والتجريب، يبدو مرشحًا بشدة لاقتحام هذا الحقل. يكفي أن نعيد قراءة «محمد برادة» أو «الطاهر بنجلون» أو «عبد الكبير الخطيبي» لنكتشف أنهم كانوا يكتبون نصوصًا تتوق إلى هذا النوع من التشابك الحسي.

إنني لا أرى في هذا الأدب ضربًا من الترف التكنولوجي، بل أداة جديدة لفهم أنفسنا والعالم. ففي زمن يسود فيه الذكاء الاصطناعي وتتعدد فيه الواجهات الحسية، يصبح من الطبيعي أن نطلب من القصة أن تهمس حين نخفض صوت الموسيقى، أو أن تهرب منا حين ينطفئ النور. ليس لأننا نحب الدهشة فقط، بل لأننا بتنا نؤمن بأن اللغة لم تعد تكفي وحدها للقبض على المعنى.

أجل، لقد صار الحرف يحتاج إلى ظل، والكلمة إلى لحن، والسطر إلى ومضة. والأدب، وهو يغامر في هذا المسار الجديد، لا يفقد جوهره، بل ربما يستعيده بشكل أعمق: أن يكون مرآة للذات، متعددة، متحولة، لا تُقرأ… بل تُحَسّ.

0 التعليقات: