صدر حديثًا عن مؤسسة "أبجد" للنشر ببغداد كتاب جديد للباحثة العراقية نادية هناوي، يحمل عنوان "السرديات ما بعد الكلاسيكية: مصطلحات - موضوعات - إشكاليات"، ويُعدّ بمثابة تتويج لمسار بحثي طويل في النقد السردي الحديث، ينأى بنفسه عن التقليد التوسعي للسرديات الكلاسيكية، ليخوض، بدلًا من ذلك، في استقصاء جذورها المعرفية وتفكيك ما أغفلته من مشكلات مفاهيمية وأدواتية، ظلت في مجملها رهينة التصورات البنيوية وما بعدها، دون أن تُجابَه بحسم علمي دقيق.
يأتي هذا المؤلَّف امتدادًا لمشروع بحثي متكامل دشّنته هناوي في سلسلة من الكتب السابقة، أبرزها ثلاثية "علم السرد ما بعد الكلاسيكي"، التي صدرت تباعًا خلال عامي 2022 و2023، واشتملت على أجزاء مخصصة لكل من "السرد غير الطبيعي"، و"السرد غير الواقعي"، و"أقلمة المرويات التراثية العربية". كما تمهّد لهذا الكتاب أيضًا أطروحتها الصادرة في 2024 تحت عنوان "الآفاق المستقبلية في نقد السرديات العربية"، مما يجعل من الكتاب الجديد محصلةً تراكمية واجتهادًا تنظيريًا يرنو إلى ترسيخ مصطلح "السرديات ما بعد الكلاسيكية" كمسلك معرفي مستقلّ لا merely تجاوزيّ أو تصحيحيّ فحسب، بل تأسيسي لمرحلة نقدية جديدة.
في هذا العمل، تنطلق الباحثة من فرضية مفادها أن السرديات الكلاسيكية، رغم ما حققته من تطورات مفاهيمية، قد تركت فجوات متعددة، استدعت تدخلًا من قِبل منظّرين غربيين، معظمهم من المدرسة الأنجلوساكسونية، ممن استفادوا من تقاطعات العلوم الإنسانية والفلسفية لتأسيس علم جديد له ملامحه وأدواته الخاصة. وتشير هناوي إلى أن ما يُعرف بـ"جماعة أوهايو" الأميركية أسهمت بقوة في هذا التحول، عبر تقديم مشاريع سردية راديكالية أعادت تعريف أدوار الراوي والشخصية والبنية، وفتحت المجال أمام نظريات جديدة كالسرد التفاعلي، والمروي المتشظي، والتجريب المتعدد الأصوات.
يضم الكتاب ثلاثة فصول محورية: يُعنى الأول منها بتحليل أربعة مفاهيم مركزية، بينما يتناول الثاني ستة موضوعات مستجدة في حقل السرد، في حين يركّز الثالث على الإشكاليات البنيوية والمعرفية، مثل التبئير وتغيّر الضمائر، وعلاقة المؤلف بالسارد والشخصية. وفي ذلك تبرز أهمية هذا العمل الذي يسائل المسلّمات السردية الكلاسيكية، معتبرًا أن رفض التبدل في درجات التبئير أو تغيّر منظور الراوي قد يمثل قصورًا معرفيًا، وليس ثباتًا بنيويًا، خاصةً في ظل تلاشي مرجعيات المحاكاة الواقعية التي كانت تشكّل ركيزة المدرسة الكلاسيكية.
وتطرح المؤلفة، من خلال مقاربة دقيقة، قضية تغييب المؤلف في النظريات السابقة، معتبرة أن هذا التغييب لم يكن علميًا بقدر ما كان إيديولوجيًا، إما لتهميش وظيفة المؤلف بوصفها أثرًا شفاهيًا من الماضي، أو لأن ظهوره لا يخدم المسعى البنيوي في الحفاظ على "نقاء" النظام السردي. كما تُسلّط الضوء على ممارسات ما بعد الكلاسيكية في توسيع فضاءات التأويل من خلال تحرير السرد من مركزية الراوي التقليدي، واعتماد أساليب سرد متقلبة، تمنح للنص استقلالًا ديناميكيًا وقدرة على إعادة خلق العالم لا نسخه.
الناشر من جهته وصف العمل بأنه يمثل إضافة نوعية في حقل النقد الأدبي، نظرًا لقدرته على الجمع بين مرجعيات متعددة تتجاوز مفهومي "البينية" و"التداخل"، إلى ما يمكن وصفه بـ"التعدد الاختصاصي"، واضعًا أمام الباحث العربي خريطة معرفية متجددة لكيفية تطور علوم السرد، ومآلاتها المعاصرة في ظل التصاعد المتسارع لنظريات ما بعد الحداثة، والعوالم الافتراضية، والأشكال الجديدة من الرواية التفاعلية والرقمية.
وتختم هناوي كتابها بدعوة مفتوحة إلى النقاد العرب، تحثّهم فيها على الانخراط في هذه المغامرة الفكرية، وتبني أدوات جديدة قادرة على قراءة النصوص خارج الأنساق الجاهزة، مؤكدة أن ما يحتاجه النقد العربي اليوم ليس المراوحة في الموروث أو مجاراة الغرب فحسب، بل إبداع مقاربة تجمع بين العمق التاريخي والجرأة على التنظير والتجريب.
0 التعليقات:
إرسال تعليق