في عالم تتسارع فيه التحولات وتضيع فيه أحيانًا القيم في زحمة العولمة والاستهلاك، يظل "اليوم العالمي للوالدين" الذي يصادف الأول من يونيو من كل عام، محطةً إنسانيةً سامية للاعتراف بدور الأب والأم في بناء المجتمعات، وتذكيرًا جماعيًا بفضلٍ لا يُرد، وعطاء لا يُعوض.
أقرت الأمم المتحدة هذا اليوم سنة 2012 ليكون مناسبة عالمية تُسلّط الضوء على مسؤوليات الوالدين الجسيمة، وتُذكّر المجتمعات والحكومات بأهمية توفير الدعم الضروري للأسر من أجل تنشئة أجيالٍ متوازنة، تربويًا ونفسيًا وأخلاقيًا. غير أن تكريم الوالدين ليس مفهوماً مستحدثًا في الثقافة الإنسانية، بل هو قديم قدم الضمير البشري، ومتجذّر في النصوص الدينية، والتقاليد الاجتماعية، لا سيما في المجتمعات ذات الخلفيات الروحية العميقة، مثل المغرب.
في الديانات السماوية:
الوالدان أول الأنبياء
لقد كرّمت الديانات
السماوية الثلاث — اليهودية والمسيحية والإسلام — الوالدين، ورفعت برّهما إلى مرتبة
العبادة. ففي الوصايا العشر التي تلقاها النبي موسى عليه السلام، نقرأ: "أكرم
أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض"، وهو مبدأ أخلاقي تربوي قبل أن يكون وصية
دينية. وفي الإنجيل، يحث الرسول بولس أبناء الكنيسة على طاعة والديهم "لأن هذا
حق"، مشددًا على طاعة مشفوعة بالحب والاحترام.
أما في الإسلام، فقد
جاء الأمر الإلهي ببرّ الوالدين بعد التوحيد مباشرة، دلالة على عظمة منزلتهما. يقول
الله تعالى: "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ
إِحۡسَٰانًا" [الإسراء:23]. ليس هذا فحسب، بل أشار القرآن إلى الأم تحديدًا، وذكر
معاناتها في الحمل والولادة، وأوصى بالأب في مواضع عديدة، مقرًّا بجميلهما على الأبناء
مهما بلغوا من النضج والنجاح. الحديث النبوي الشريف بدوره وضع الأم في صدارة البرّ
حين أجاب النبي عن سؤال أحد الصحابة: "من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال:
ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك".
في المغرب: البرّ ثقافة
وهوية
في المغرب، لا يُختزل
تكريم الوالدين في مناسبة عالمية، بل هو فعل يومي مُشبع بالقيم الدينية والتقاليد الشعبية
التي تشربها المغاربة جيلاً بعد جيل. يُعدّ "رضى الوالدين" من أعلى القيم
الأخلاقية والاجتماعية، حتى أن الناس يتداولون عبارات مثل: "رضى الوالدين مفتاح
الجنة" و"اللي ما فيه خير فوالديه ما فيه خير فالناس".
تحضر رمزية الوالدين
بقوة في الأدب المغربي الشعبي، وفي الأغاني، والحكايات، والتمثلات الثقافية. كما أن
العلاقات داخل الأسرة المغربية التقليدية تتسم غالبًا بمركزية الأب والأم في اتخاذ
القرارات، وتُستمدّ مكانتهما من الدور التربوي والروحي الذي يمارسانه، لا فقط من السلطة
الأبوية، بل من كون وجودهما يُشكّل سندًا نفسيًا واجتماعيًا للأبناء حتى بعد بلوغهم
الكهولة.
ومن المثير أيضًا أن
نلاحظ كيف حافظ المغاربة، رغم موجات الحداثة والتغير الاجتماعي، على مظاهر احترام الوالدين:
تقبيل اليد، الإنصات لكلمتهم، تخصيص زيارات منتظمة حتى بعد الزواج، بل وحتى في حالات
السفر الطويل، لا يبدأ المسافر رحلته دون طلب الدعاء من والديه.
لكن هذا لا يمنع من
الإشارة إلى بعض التحديات التي باتت تُواجه هذه الثقافة في السنوات الأخيرة، مع صعود
قيم الفردانية، وتأثيرات أنماط الحياة الغربية، وتراجع بعض أشكال التماسك الأسري، مما
يستدعي تجديد الخطاب التربوي والديني لتعزيز قيمة برّ الوالدين لدى الأجيال الجديدة.
تكريم رمزي يجب أن
يتحول إلى سياسة عمومية
رغم أهمية الرمز في
جعل الأول من يونيو محطةً تأملية لتكريم الوالدين، إلا أن الأمر لا يجب أن يتوقف عند
التهنئة والزهور. المطلوب هو التفكير في سياسات عمومية داعمة للأسرة، تضمن حقوق الوالدين
في شيخوختهم، وتُخفف من أعبائهم خلال مراحل إعالة الأبناء، وتوفر لهم التغطية الصحية
والدخل الكريم.
إن الاحتفاء الحقيقي
بالوالدين، لا يتحقق فقط بالكلمات، بل بالإجراءات التي تكرّس الرعاية، وتُعيد للأسرة
مركزيتها في زمن التفكك والتسليع.
في الختام
في اليوم العالمي للوالدين،
لا نحتفل بصفة بيولوجية فقط، بل نُكرّم دورًا إنسانيًا عظيمًا في البناء، والتنشئة،
والرعاية، والحب. هو يوم للاعتراف، لكنه أيضًا نداء مفتوح إلى كل فرد فينا: لا تنسَ،
في زحمة الأيام، أن تقول لأبيك وأمك كلمة شكر، نظرة حنان، أو حتى صمتًا دافئًا يحمل
كل معاني الوفاء. لأن في أعماق كل حضارة ناجحة… كان هناك أب وأم يزرعان الأمل دون انتظار
مقابل.
0 التعليقات:
إرسال تعليق