الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، يونيو 03، 2025

العوالم الافتراضية تكتبنا كما نكتبها: في رحاب الأدب الرقمي والسرد البيئي» ترجمة عبده حقي


لم أكن أظن أنني سأكتب يوماً في فضاء لا تمسكه اليد، ولا تحدّه الجغرافيا، ولا يُقرأ بصمت بل يُعاش كواقع بديل. لكنني، وأنا أتنقل اليوم بين روايات رقمية تتنفس من شاشات، وأعمال تفاعلية تنمو ككائنات حية داخل بيئات افتراضية، أيقنت أن الأدب لم يمت، بل تحوّل إلى كائن رقمي يتقمص تقنيات العصر ويعيد تشكيل علاقتنا بالعالم.

ما يشدني في هذا الانفجار الرقمي ليس فقط الشكل الجديد للنصوص، بل قدرتها المذهلة على تجسيد قضايا كونية مثل البيئة، ليس كخطاب توعوي ساذج، بل كلغة سردية متعددة الطبقات. لقد بات الأدب الرقمي، في تجلياته البيئية، أكثر قدرة على محاكاة النظم البيئية، ليس بتصويرها فقط، بل بمحاكاتها تفاعلياً، كما لو أن القارئ/المستخدم يدخل غابة رقمية تُعلّمه كيف يشعر بانقراض نوع، أو يُحاوره نهر يحتضر بسبب سدّ افتراضي.

تجربتي الشخصية الأولى مع هذا الشكل من السرد كانت عبر عمل رقمي تفاعلي صادفته في معرض للأدب الرقمي بباريس عام 2022، بعنوان «The Changing Room» "غرفة تغيير الملابس" للمؤلفة البريطانية جين فون كوبي. كانت تجربةً سرديةً تدور في عالم افتراضي يتغير تبعاً لاختيارات المستخدم، حيث تختلط قضايا النوع الاجتماعي بالتحولات البيئية. شعرت آنذاك أنني لا أقرأ نصاً، بل أمارس حياة داخل قصة.

الأدب الرقمي البيئي أو ما يُعرف أحياناً بـ"Eco-digital Literature"  ليس مصطلحاً اعتباطياً، بل يعكس توجهاً معرفياً متصاعداً نحو دمج القضايا البيئية في أنسجة النصوص الرقمية، باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، الواقع الافتراضي، والبيئات المحاكية. في هذا السياق، لا يعود الكاتب مجرد راوي، بل يُشبه مخرج أفلام الواقع المختلط، يزرع بذور المعنى ويترك للقارئ أن يسقيها تفاعلاً.

أجدني، كمغربي، مشدوداً إلى إمكانية تطويع هذه الأدوات الجديدة لسرد واقعنا البيئي المحلي، الذي غالباً ما يُختزل في تقارير جافة أو حملات توعوية موسمية. ماذا لو كتبنا عن أزمة المياه في جبال الأطلس من خلال لعبة سردية تفاعلية؟ أو أعدنا إحياء ذاكرة الواحات المهددة بالتصحر عبر رواية رقمية تعتمد على صور أقمار صناعية ومقاطع فيديو أرشيفية؟ إنها ليست مجرد أفكار عابرة، بل ضرورة إبداعية لإعادة وصل الإنسان بجذوره الطبيعية، في عصر بات فيه حتى "الهواء" مشفّراً في بيانات.

الدراسات الحديثة في  «Digital Humanities "العلوم الإنسانية الرقمية" ، مثل تلك التي قدمتها الباحثة  «Astrid Ensslin، تُظهر كيف يمكن للبيئة الرقمية أن تصبح هي نفسها بيئة سردية. فالنص في هذه الحالة لا يُقرأ، بل يُستكشف، كما تُستكشف خرائط الواقع. النص يتحرك، يتنفس، ويتغير بتغير تفاعل المستخدم. ومن هنا، تبرز أخلاقيات جديدة للكتابة، حيث لا يكفي أن تكتب عن الأرض، بل أن تكتب «مع» الأرض، أو بالأحرى، «من داخل» بيئة تُمثلها.

ولعل من أكثر الأمثلة إلهاماً ما أنتجته منصة «Twine» من قصص تفاعلية تتناول مستقبل الأرض بعد كوارث مناخية. هذا النوع من القصص لا يقدّم حلاً مباشراً، بل يُشبه الإنذار الذي يُطلق من داخل غرفة مغلقة، ويحثّ القارئ على كسر الجدران.

هل يمكن أن ينقذ الأدب الرقمي البيئة؟ ربما لا. لكنه حتماً قادر على أن يُحوّل وعينا من مجرد متلقٍّ سلبي إلى كائن يشارك في صياغة المصير. وهو ما يتقاطع مع أطروحة الناقدة

«Donna Haraway»  في كتابها «Staying with the Trouble، حيث تدعو إلى كتابة قصص تبقينا في صلب الإشكال، لا خارجه، قصص لا تنتهي، بل تُشبه الطبيعة في دورانها المتواصل.

إنني، وأنا أكتب في هذا المفترق الرقمي، لا أجد في الأمر ترفاً تقنياً، بل امتداداً لمهمة الكاتب الأولى: أن يكون مرآةً متحركة للعالم، حتى وإن كانت هذه المرآة اليوم شاشة مضيئة، وهذا العالم مجرد محاكاة ثلاثية الأبعاد. فالسؤال لم يعد: كيف نكتب عن البيئة؟ بل: كيف تكتب البيئة من خلالنا، في عالم تُصبح فيه اللغة نفسها قابلة للبرمجة؟

في نهاية المطاف، الكتابة في العوالم الافتراضية ليست خروجاً من الواقع، بل عودة إليه من بوابة أعمق، أكثر شاعرية، وأكثر قدرة على الاستفزاز. إن الأدب الرقمي البيئي لا يسرد فقط، بل يُربّي، يُحرّك، ويزرع شكاً جميلاً في يقيننا الزائف بأن العالم بخير.

0 التعليقات: