في سياق يتسم بتعزيز التوازنات الدولية وإعادة النظر في خريطة التحالفات الجيوسياسية، يسجل المغرب في يونيو 2025 اختراقين دبلوماسيين على مستوى الأمم المتحدة والمملكة المتحدة، يؤكدان مرة أخرى أن مبادرة الحكم الذاتي في الصحراء المغربية، التي اقترحها الملك محمد السادس سنة 2007، قد تحولت من مجرد مقترح مغربي إلى مرجعية دولية مطروحة بجدية على طاولة الحل.
خلال الدورة التاسعة والخمسين لمجلس حقوق الإنسان المنعقدة في جنيف، عبرت نحو أربعين دولة عن دعمها الواضح والصريح لمبادرة المغرب، مؤكدة أن هذه الخطة تمثل “الحل الواقعي والعملي الوحيد” للنزاع حول الصحراء. اللافت هنا ليس فقط عدد الدول المؤيدة، بل تنوعها الجغرافي والسياسي: من أوروبا إلى إفريقيا، ومن أمريكا اللاتينية إلى آسيا. وهو ما يعكس تحولاً عميقاً في الرؤية الدولية لهذا الملف، الذي ظل طويلاً رهينة طروحات جامدة تقودها الجزائر عبر صنيعتها جبهة البوليساريو.
الأمم المتحدة، وإن
لم تصدر بعد قراراً نهائياً لحل النزاع، بدأت تبعث بإشارات متكررة بأن الحل السياسي
القائم على التوافق والواقعية – أي الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية – هو المسار
الوحيد القابل للحياة. لم تعد أطروحات الاستفتاء تحظى بذات الزخم، بل أصبحت في أعين
المجتمع الدولي طرحاً قديماً تجاوزه الزمن والواقع السياسي المتحول.
في هذا السياق ذاته،
تأتي جلسة البرلمان البريطاني المقرر عقدها يوم 18 يونيو، لمناقشة العلاقات المغربية
البريطانية، وخاصة بعد إعلان لندن دعمها الرسمي لمبادرة الحكم الذاتي. هذه ليست مجرد
جلسة برلمانية عادية، بل تحمل دلالة استراتيجية مزدوجة: أولاً، اعتراف ضمني من إحدى
القوى الدائمة العضوية في مجلس الأمن بأهمية المقترح المغربي كقاعدة للحل. وثانياً،
دخول بريطانيا في نادي الدول الأوروبية التي تجاوزت مواقف الحياد الرمادي، لتقف صراحة
إلى جانب المغرب، بعد دعم مماثل من فرنسا وإسبانيا، وألمانيا، والدانمارك وهولندا.
الدعم البريطاني له
أبعاد استراتيجية بعيدة المدى. فمن جهة، يتزامن مع تصاعد الاهتمام البريطاني بإفريقيا
ما بعد البريكست، حيث يسعى صناع القرار في لندن إلى توسيع تحالفاتهم خارج الاتحاد الأوروبي.
والمغرب، باعتباره بوابة إفريقيا الغربية والمركز اللوجستي القاري الصاعد، يقدم فرصة
ذهبية لبريطانيا لإعادة بناء نفوذها جنوب المتوسط في ظل المنافسة الفرنسية الإسبانية
والصعود التركي.
ومن جهة أخرى، يعكس
هذا التحول البريطاني وعياً جديداً بأن ملف الصحراء لم يعد مجرد نزاع محلي، بل قضية
أمن إقليمي لها تداعيات على استقرار الساحل، ومكافحة الإرهاب، والهجرة غير النظامية،
وتأمين شرايين الطاقة والموارد الطبيعية. وبالتالي، فإن دعم الاستقرار المغاربي هو،
في نهاية المطاف، دعم لاستقرار أوسع يمتد إلى العمق الإفريقي.
في المقابل، تبدو الجزائر
في موقع دفاعي معزول، حيث لم تنجح في الحفاظ على تماسك خطابها في المحافل الأممية،
ولا في إقناع شركائها التقليديين بعدالة الطرح الانفصالي. الأخطر من ذلك، أن مشروع
“استفتاء تقرير المصير” فقدَ بريقه حتى في خطابات المؤيدين السابقين، الذين باتوا يفضلون
التحدث عن “حلول واقعية وذات مصداقية” – وهي مفردات ترددت كثيراً في بيانات الدعم الأخيرة
للحكم الذاتي.
المغرب، في المقابل،
يستثمر نجاحاته الدبلوماسية بهدوء وثقة، ويواصل عرض مقترحه كأرضية للحوار وليس كشرط
مسبق. وهذا ما يمنحه تفوقاً أخلاقياً وسياسياً، في مقابل تصلب خطاب الجبهة الانفصالية
الذي لم يعد يواكب التحولات الدولية، بل يسير عكس التيار.
في نهاية المطاف، ما
بين دعم دولي متزايد داخل أروقة الأمم المتحدة، وتحول استراتيجي في المواقف الأوروبية
كما جسدته لندن، يجد المغرب نفسه اليوم في موقع تفاوضي أقوى من أي وقت مضى. إن ما يحدث
لا يمثل فقط تصحيحاً تاريخياً لتموضع دولي غير منصف، بل إعلان بداية مرحلة جديدة: مرحلة
تسوية سياسية جاهزة، تنطلق من الرباط وتجد صداها في العواصم العالمية.
وهكذا، فإن ما كان
يوماً ما “نزاعاً مجمّداً” تحوّل اليوم إلى قضية تُعاد قراءتها بمعايير واقعية جديدة،
تقودها أطروحة مغربية أثبتت واقعية صلابتها واستباقها للزمن.
0 التعليقات:
إرسال تعليق