الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، يونيو 23، 2025

سحر التفرعات السردية: كيف أعادت الرقمية تشكيل بنية الحكاية: عبده حقي


في كل مرة أعود فيها إلى رواية رقمية غير خطية، أشعر وكأنني ألج متاهة بيزنطية، لا أدري من أين تبدأ الحكاية ولا أين تنتهي، ولا أكاد أفرق بين القارئ والكاتب، بين المصير والخيار، بين "أنا" و"نحن". هكذا أصبحت الكتابة الرقمية ــ لا سيما تلك التي تتبنى البنية غير الخطية ــ تشكل تجربة سردية جديدة، تتجاوز قوانين الزمان والمكان التقليديين، وتمنح القارئ سلطة تكاد تماثل سلطة المؤلف. وأنا ككاتب مغربي، أجد في هذا التحول فرصةً جمالية ومعرفية لإعادة النظر في معنى الكتابة، بل في ماهية الأدب ذاته.

لقد تعلمنا، كما يشير «جيرار جنيت» في كتابه "Figures III"، أن النصوص تحكمها بنيات صارمة: بداية، وسط، نهاية. لكن العالم الرقمي كسر هذه البنيات وأعاد ترتيبها وفق منطق الترابط التشعبي (hypertextuality)، حيث لا تسير القصة في خط مستقيم بل تتشعب كما لو كانت شبكة عصبية، كل رابط فيها يقود إلى حكاية جديدة، إلى صوت جديد، إلى طريق قد لا يعود إلى الأصل. هذه البنية اللاخطية ليست مجرد تقنية، بل هي فلسفة سردية قائمة، تجد جذورها في محاولات قديمة مثل "اللوتس الزرقاء" لأندريه جيد، أو "لعبة الحجلة" لخوليو كورتاثر، لكنها تبلغ في الأدب الرقمي ذروتها التقنية والمعرفية.

أحد أبرز من تناول هذا الموضوع هو «إسبين أريستيجويتا» في دراسته حول "النصوص الحركية والتفاعل القرائي" (2019)، حيث يعتبر أن السرد غير الخطي في الفضاء الرقمي لم يعد يهدف فقط إلى التشويق أو اللعب بالزمن، بل يعكس تصورًا مغايرًا للواقع نفسه، تصورًا فوضويًا، متعدّد الصوتيات، يشبه إلى حد بعيد طريقة تفكيرنا ونحن نبحر عبر الإنترنت: ننتقل من مقالة إلى فيديو، من ميم ساخر إلى خبر سياسي، من ذاكرة شخصية إلى أرشيف عالمي.

في روايتي الأخيرة، التي كتبتها ضمن مشروع سردي تفاعلي، حاولت أن أتخلى عن فكرة "الحبكة المتماسكة" وأسمح للنص بأن يتنفس وفق إيقاع القارئ. أن يختار هو من أين يبدأ، ومن يصادق من الشخصيات، وما المصير الذي يريد للراوي أن يناله. لم يعد النص كيانًا مغلقًا، بل أصبح تجربة قابلة للتخصيص، كما تفعل تطبيقات الهواتف الذكية حين تمنحك واجهتها وفق رغبتك. وربما هذا ما قصده «مارك أميرسون» في كتابه “Writing Machines”  حين وصف النص الرقمي بأنه "آلة سردية هجينة" تنتج المعنى بالتشارك مع القارئ.

لكن هذه الحرية في البناء لا تخلو من مسؤوليات. فالبنية غير الخطية تفرض على الكاتب وعيًا سرديًا معقدًا، إذ عليه أن يفكر في تشابك الأجزاء، في تعدد النهايات، في اتساق الأصوات رغم التفرع. كما أنها تتطلب من القارئ تواطؤًا تأويليًا غير مألوف، يجمع بين اللعب والفهم، بين المتعة والشك، كمن يركب أحجية دون أن يملك صورة نهائية لما ينبغي أن تكون عليه.

ما يدهشني أن هذه البنيات اللاخطية أصبحت أكثر تعبيرًا عن عالمنا المتصدع والمترابط في آن. ففي ظل فوضى المعلومات، وتعدد مصادر السرد في الوسائط الاجتماعية، وانهيار السرديات الكبرى، أصبحت القصة التقليدية ـ بتسلسلها الهادئ ـ عاجزة عن تمثيل القلق المعرفي الذي يعيشه الإنسان المعاصر. وكأننا بحاجة إلى أدب ممزق كي نحكي عن عالم ممزق.

وقد رصدت «كاثرين هايلز» هذا التحول في كتابها

“Electronic Literature: New Horizons for the Literary”، مشيرة إلى أن الأدب الرقمي لا يكتفي بتقويض الزمن أو ترتيب الأحداث، بل يدمج الوسائط المتعددة (نص، صورة، صوت، حركة) لخلق تجربة مركبة، لا يتحقق معناها إلا داخل بيئة قرائية تفاعلية. وهنا لا تعود القصة فقط ما يُقال، بل أيضًا كيف يُقرأ، وأين يُضغط، ومتى يُترك النص ليعود إليه لاحقًا بشكل مختلف.

لا أنكر أن هناك من ينظر إلى هذا النوع من الأدب بعين الريبة، ويعتبره نزوة تقنية لا أكثر، أو ممارسة تجريبية هامشية لا ترقى إلى الأدب الحقيقي. لكنني أرى فيه امتدادًا عضويًا لتاريخ طويل من الأسئلة حول الشكل والمعنى، من «لورنس ستيرن» إلى «بورخيس»، من "ألف ليلة وليلة" إلى الشعر الصوفي المغربي الذي غالبًا ما كان يفتح باب التأويل أكثر من أن يقفله.

أكتب هذه التأملات من قلب التجربة، لا من على هامشها. فأنا لا أنظر إلى الأدب الرقمي كباحث محايد، بل كفاعل يحاول، بوسائل معاصرة، أن يعيد ربط الشعر بالسؤال، والحكاية بالدهشة، والسرد بالحرية. لقد صارت القصة، بالنسبة لي، ليست ما أكتبه بل ما أفتحه للقارئ كي يكتبه معي.

في النهاية، لا أدري هل المستقبل سيكون لقصص لا تبدأ من أولها، ولا تنتهي في آخرها؟ هل سيتحول القارئ إلى لاعب؟ وهل سيتحول الكاتب إلى مهندس روابط؟ أسئلة لا أملك أجوبتها الآن، لكنني واثق أن الأدب، كعادته، سيجد الطريق، ولو في شكل شظايا مضيئة على شاشة داكنة.

0 التعليقات: