الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، يوليو 30، 2025

خطاب العرش 2025: رؤية ملكية واعدة نحو مغرب الصعود المتوازن: عبده حقي


في خطابه بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لاعتلائه العرش، رسم الملك محمد السادس حفظه الله معالم سياسة مغربية تقوم على التوازن بين النمو الاقتصادي الشامل والتماسك الاجتماعي والإنصاف المجالي. الخطاب الملكي لم يكن مجرد تذكير بالمنجزات، بل حمل في طياته قراءة نقدية واقعية للوضع، وتوجيهات سياسية واضحة لصياغة جيل جديد من الإصلاحات، بروح استشرافية، وبنبرة صريحة تربط التنمية بالمواطن لا بالمؤشرات فقط.

من الناحية الاقتصادية، شدد الملك على أن ما تحقق ليس صدفة، بل نتيجة لرؤية استباقية قائمة على تثبيت الاستقرار السياسي والمؤسساتي، وتعزيز مكانة المغرب كقوة اقتصادية صاعدة في إفريقيا والعالم. خطاب العرش قدّم أرقاما ومعطيات دقيقة: تضاعف الصادرات الصناعية منذ 2014، ازدهار قطاعات السيارات والطيران والطاقات المتجددة، وامتداد الشراكات الدولية مع أكثر من ثلاثة مليارات مستهلك بفضل اتفاقيات التبادل الحر.

لكن اللافت في الخطاب هو هذا الوعي الملكي بأن المكاسب الاقتصادية لن تكتمل إلا إذا أثّرت إيجابًا في حياة المواطنين، خصوصا الفئات الهشة والمناطق المهمّشة. فالملك لم يكتفِ بالاحتفاء بالنجاح الاقتصادي، بل عبّر بصراحة عن عدم رضاه تجاه استمرار مظاهر الفقر في بعض المناطق القروية، مؤكدًا أنه "لا مكان لمغرب يسير بسرعتين". إنها لحظة فاصلة في الفكر السياسي المغربي، حيث يتم تجاوز المقاربات التقليدية للتنمية، والدعوة إلى نموذج ترابي مندمج، يعيد الاعتبار للعدالة المجالية والاجتماعية.

من هنا جاءت دعوة الملك لإطلاق جيل جديد من برامج التنمية الترابية، يقوم على أربعة محاور رئيسية: دعم التشغيل المحلي، تحسين الخدمات الاجتماعية الأساسية، تدبير الموارد المائية بشكل مستدام، وتأهيل التراب في انسجام مع المشاريع الوطنية الكبرى. وهي مقاربة شاملة تنقل الدولة من التدخل الرأسي إلى التنسيق الأفقي بين الفاعلين والمؤسسات، وتعيد التوازن بين المركز والهامش.

أما على المستوى السياسي، فقد جاء الخطاب في سياق تحضير البلاد للانتخابات التشريعية المقبلة. وهنا حرص الملك على التأكيد على ضرورة الشفافية والاستعداد المسبق، موجهًا تعليماته لوزارة الداخلية من أجل تنظيم استحقاق انتخابي يرقى إلى تطلعات المغاربة. فالديمقراطية، كما يفهمها الملك، ليست فقط صناديق اقتراع، بل مناخ من الوضوح، والتشاور، والالتزام الأخلاقي.

في الجانب الجهوي والدبلوماسي، كرّر العاهل المغربي دعوته الصادقة إلى الجزائر للحوار، مجددًا مد يده للشعب الجزائري الشقيق، ومؤكدا أن وحدة الشعوب المغاربية ليست ترفا سياسيا، بل حاجة تاريخية ومصيرية. وفي هذا السياق، يشكل تشبث المغرب بالاتحاد المغاربي نداء صريحًا ضد منطق الانغلاق والتجاذب، ودعوة إلى تجاوز الجمود العقيم. كما أعاد الخطاب التأكيد على مشروعية الموقف المغربي من قضية الصحراء، مثمنا الدعم المتزايد لمبادرة الحكم الذاتي من قِبَل دول كبرى كالمملكة المتحدة والبرتغال، ومكرّسا خطاب الاعتدال والتوافق، لا الغلبة والانتصار.

الشق الأمني في الخطاب لم يُغفل الدور الحيوي الذي تلعبه مختلف مكونات الدولة في صون استقرار البلاد، من الجيش إلى الأمن والدرك والإدارة الترابية، في ظل محيط إقليمي ودولي متقلب. وقد اختتم الملك خطابه بالبعد الروحي والرمزي، مستحضرا أرواح الملوك السابقين، ومعززا العلاقة العميقة بين الملك والشعب، في تلاحم ينهل من الشرعية التاريخية والدينية والإنسانية.

إن الخطاب الملكي لهذه السنة يعكس تحولًا نوعيًا في هندسة الدولة المغربية: من دولة تنمية اقتصادية إلى دولة تنمية متوازنة ترابية وشاملة؛ ومن بلد يطلب الاعتراف الخارجي إلى بلد يفرض نفسه كشريك موثوق؛ ومن نظام حكم يوجه من القمة إلى دينامية وطنية تشمل المواطن والمجال والمؤسسة. إنها رؤية لملكية تنفيذية متفاعلة، تتحرك بين ضغوط الواقع وإكراهاته، وآفاق المستقبل وتطلعاته، وهي بذلك تضع المغرب في مصاف الدول التي تراهن على الاستثمار في الإنسان والمجال كمعيار حقيقي للشرعية والنجاح.

0 التعليقات: