الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، يوليو 30، 2025

قراءة سياسية في تصوير فيلم "الأوديسة" بالصحراء المغربية : عبده حقي


رغم كونه عملاً سينمائياً تخيلياً، إلا أن فيلم "الأوديسة" للمخرج العالمي كريستوفر نولان تحوّل، قبل صدوره في يوليو 2026، إلى حدث سياسي بامتياز، أثار الكثير من الغبار في وسائل الإعلام العالمية، ليس بسبب طاقمه الهوليودي الضخم والباهر ولا لأن نولان اختار مجدداً سرد ملحمة تتقاطع فيها الفلسفة مع التاريخ، بل لأن التصوير تم في جنوب المملكة المغربية، وتحديداً في مدينة الداخلة بالصحراء المغربية.

من منظور مغربي، لا يمكن فصل هذا الحدث السينمائي عن دينامية السيادة التي يكرّسها المغرب في أقاليمه الجنوبية. إذ أن تصوير نولان لفيلمه في الداخلة — من دون الحاجة إلى إذن من أي جهة غير السلطات المغربية — ليس فقط اعترافاً ضمنياً بسيادة المغرب على الصحراء، بل هو تعبير حيّ عن تحوّل هذه الأقاليم إلى فضاء استقرار وجذب فني واستثماري وسينمائي دولي. وقد تكون الكاميرا، في حالات كثيرة، أكثر نفاذاً من البيان السياسي، وأكثر تأثيراً من الخطب الدبلوماسية.

الانتقادات التي طالت نولان من بعض الجهات الداعمة لجماعة البوليساريو لم تكن سوى محاولة جديدة لفرض سردية مفلسة تتعارض مع منطق الواقع والقانون الدولي. فالمغرب، منذ خمسة عقود، وهو يرسّخ سيادته على الصحراء من خلال نموذج تنموي متكامل، وبنيات تحتية حديثة، وفضاءات ثقافية وسينمائية باتت تجذب كبار المنتجين العالميين. الداخلة، التي اختارها نولان، ليست فقط مدينة ساحلية تنبض بالجمال الطبيعي، بل أصبحت منصة لتلاقي الثقافات وتثمين العمق الإفريقي للمغرب.

الواقع أن اختيار نولان، عن وعي فني محترف، لتصوير مشاهد من فيلمه في الداخلة، ينسجم مع سلسلة من المواقف الدولية التي باتت تعتبر الحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب سنة 2007 حلاً واقعياً وذا مصداقية. فقد سبقه إلى هذه الأرض مستثمرون من أوروبا والخليج، وسياح من أميركا اللاتينية وآسيا، وقبلهم دبلوماسيون افتتحوا قنصليات في العيون والداخلة، كل ذلك في دلالة واضحة على انهيار جدار "المنطقة المتنازع عليها" أمام مدّ الشرعية والاعتراف الفعلي.

لكن اللافت في الجدل المثار حول تصوير "الأوديسة"، هو أنه يعكس خوف خصوم الوحدة الترابية للمغرب من قوة "الرمز الثقافي" كأداة جيوسياسية. فأن تظهر الداخلة على الشاشة الفضية لهوليود، ببطولة أسماء من قبيل آن هاثاواي ومات ديمون وزندايا، هو في حد ذاته انتصار ناعم للدبلوماسية المغربية. إذ لم يعد النقاش يدور حول "السيادة"، بل حول "الظهور"، والمغرب يحسن هندسة ظهوره على الساحة الدولية، سواء في الأمم المتحدة أو على شاشات السينما.

إن هذا الحدث، على رمزيته، يثبت مرة أخرى أن المغرب اختار منذ سنوات استراتيجية القوة الهادئة، وأنه لا يكتفي بالرد على الخصوم بالبيانات، بل يستثمر في العمق الثقافي والاقتصادي والسياسي لصحرائه، محولاً إياها من نقطة نزاع إلى نقطة إشعاع. فالصحراء المغربية، اليوم، ليست فقط ملفاً دبلوماسياً، بل هي مشروع وطني في التثبيت والتنمية والاستثمار والإشعاع الثقافي، وما الكاميرا التي جلبها نولان سوى شاهد جديد على مغرب الصحراء الواقعي والفاعل.

وهكذا، يتحوّل فيلم "الأوديسة" من مجرد فيلم إلى مرآة تعكس مآلات صراع إقليمي طال أمده، لكنه بدأ يتلاشى أمام مشهد مغربي متماسك، لا يراهن على الضجيج بل على الفعل، ولا يطلب الاعتراف بل يكرسه في كل مشهد، وكل عدسة، وكل حجر يُشاد في جنوبه. وفي النهاية، قد تكون الصحراء المغربية قد ربحت جولة أخرى من معركة الرواية… بصمت، عبر كاميرا.

0 التعليقات: