الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، يوليو 30، 2025

شهادة مؤلمة من المنفى عن اغتيال ميداني مؤجل: عبده حقي


في لحظة تبدو كأنها فُصلت عن سيناريوهات الأفلام السياسية، يعود الصحفي الجزائري عبدو سمار ليكسر صمته، ليس ليتحدث عن ذاته بقدر ما يكشف عن الوجه القبيح لمنظومة حكم لا تطيق الحقيقة. فالرجل الذي اضطر لمغادرة بلده عام 2019 تحت التهديد والتنكيل، واللاجئ اليوم على الأراضي الفرنسية، لم يكن يطمح سوى إلى ممارسة مهنته كصحفي استقصائي مستقل. لكن ذنبه، كما يقول، أنه كشف ما لا يجب كشفه، وكتب ما لا يجوز في نظر السلطة أن يُكتب.

في باريس، يوم 30 يوليو 2025، تنعقد جلسة بمحكمة نانتير، واحدة من أرفع الهيئات القضائية في فرنسا، للنظر في محاولة اعتداء استهدفته عبدو السمار في قلب العاصمة الفرنسية، يوم 15 أغسطس 2023. الجريمة لم تكن اعتداءً عابراً، بل عملية مدروسة بدأت بتعقّب، ثم تهديد بمسدس، ثم هجوم عنيف، وأخيراً سرقة هاتفه الذكي الذي يحوي أسرار تحقيقاته.

الاعتداء لم يكن معزولاً، بل وفق ما كشفت عنه التحقيقات الفرنسية، تم التخطيط له من الجزائر، بتورط مباشر من عناصر محسوبة على النظام. المنفذ: شخص فرنسي-جزائري معروف بسجله الإجرامي الثقيل، ومعه شريك يعمل كـ"محقق خاص" هو في الأصل ضابط صف سابق في الدرك الفرنسي، وله ارتباطات عسكرية سابقة في العراق. الاثنان جاوؤا من الجزائر في مهمة واضحة: إسكات صوت يزعج، ومصادرة مصادره الصحفية.

عبدو سمار، الذي طالما آثر التركيز على المصلحة العامة وتجنّب تسييس قضيته، وجد نفسه اليوم مضطراً لكشف التفاصيل. فهو، على حد قوله، لا يرغب في تحويل قضيته إلى منصة لتصفية حسابات، بل إلى محطة لإنصاف الصحافة الحرة وحماية الحق في التعبير من الاستهداف المنظم. إنه لا يتهم الشعب الجزائري، ولا يحمّل وطنه المسؤولية، بل يشير بأصابع الاتهام إلى "جهات متنفذة داخل النظام" التي تجاوزت كل الخطوط الحمراء، وامتدت يدها إلى خارج حدود الوطن.

ويضيف سمار أنه لم يكن وحده في مرمى النيران. ففي السنوات الأخيرة، تعرّض العديد من الصحفيين والناشطين الجزائريين في المنفى لسلسلة من الاعتداءات، من بينهم يوتيوبر شهير اختُطف في ضواحي باريس، وكاتب أدبي حكم عليه بالسجن سنوات في الجزائر. كل ذلك في سياق يتقاطع فيه القضاء والإعلام والأجهزة الاستخباراتية في معركة تُدار بوسائل قذرة لإسكات من يجرؤون على الكلام.

وحسب البيان الرسمي لمحامي الصحفي، فإن هذه القضية قد تكون أول عملية من نوعها تُنفذ على الأراضي الفرنسية ضد صحفي جزائري، مما استدعى تدخل الأمن الداخلي الفرنسي (DGSI). وقد وثقت التحقيقات، حسبما جاء في الملف القضائي، تنقلات الجناة، وارتباطاتهم المالية، والعمليات اللوجستية التي سبقت الاعتداء، بل حتى إقامتهم في فنادق فخمة وسط باريس لرصد تحركات الضحية.

القضية لم تعد، كما يقول عبدو سمار، مجرد اعتداء جسدي، بل جريمة سياسية مكتملة الأركان. لقد استهدفت حرية الصحافة وحق المواطنين في معرفة الحقيقة. والأسوأ من ذلك، أن الدافع الأساسي خلفها لم يكن شخصياً، بل مؤسساتياً، يهدف إلى انتزاع مصادر الصحفي والمساس بحياته ومصداقيته.

من هنا، يرى سمار أن المحاكمة لا تعنيه وحده، بل هي اختبار حقيقي لنزاهة العدالة الفرنسية في التعامل مع الجريمة السياسية العابرة للحدود. كما أنها إنذار خطير لكل الأنظمة التي تعتقد أن بإمكانها تصدير قمعها إلى الخارج دون مساءلة.

ولئن أُدين المعتدون وظهر بعض من الحقيقة، تبقى الأسئلة الأخطر دون جواب: من الذي أصدر الأوامر؟ من دفع المال؟ من خطط؟ ولماذا صمت الجناة؟ أسئلة ربما يُكشف عنها لاحقاً، لكن الثابت، كما يقول، أن "الحقائق لا تموت، وإن صمتت مؤقتاً".

وفي ختام حديثه، يشدد عبدو سمار على أنه لا يسعى لتشويه صورة بلده، بل يحلم بجزائر حرة، يسودها القانون لا الانتقام، والحوار لا العنف. ما يطالب به ليس الانتقام، بل العدالة. العدالة التي تحمي الصحافة، وتصون الكرامة، وتردع كل من يرى في الصحفي عدواً يجب كسره أو قتله.

إنها ليست حكاية صحفي فقط، بل قصة عن دولة تتهم نفسها حين تصادر الحقيقة… عن رصاصة وُجهت إلى قلب حرية الكلمة، لكنها أخطأت الهدف.

0 التعليقات: