الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، أغسطس 01، 2025

في قلب الجيب... وفي صدى المكان: الشعرية المتنقلة في الأدب الرقمي: عبده حقي


لم أعد أقرأ النصوص الأدبية كما كنت أفعل قبل عقدين من الزمن. فأنا الآن لا أجلس إلى مكتب خشبي ولا أُقلّب الصفحات بحنوّ، بل أُمسك بجهاز صغير الحجم، أفتحه كلما أردت السفر في الجملة، أو الغوص في طبقات السرد.

 الهاتف الذكي لم يصبح فقط وسيلة للاطلاع، بل تحول إلى امتدادٍ حسيّ للمكان الذي أوجد فيه ، حتى إنني أصبحت أرى الأدب، كاهتزازٍ مستمر يتردد في فضاء مكاني وجغرافي حيّ.

إن الأدب الرقمي الذي يُكتب ويُقرأ على الهواتف المحمولة، لم يعد فقط تكييفاً شكلياً للمحتوى النصي مع وسائط جديدة، بل هو إعادة تشكيل جذرية لعلاقة النص بالمكان. في جيب البنطال أو على رصيف محطة القطار، ينفتح النص ليعيد هندسة تجربة القارئ، ليس فقط عبر تقنية التفاعل أو التصفح، بل عبر ما يمكن تسميته بـ"شعرية التموقع".

أصبحت الرواية أو القصة القصيرة التي أقرؤها عبر تطبيقي "Wattpad" أو "Readmoo"  تنفصل عن هويتها الورقية لتتماهى مع ضوء الشارع، أو مع رائحة المقهى حيث أقرأها. كما لو أن المكان الفيزيائي بات أحد أبطال النص، يمدّ الجملة بظلّ أو يهزّ إيقاعها بنغمة عابرة. ولعلّ هذا ما يشير إليه "سكوت ريتشاردسون" في دراسته حول “ambient reading” حين يعتبر أن الأجهزة المحمولة تخلق شكلاً من أشكال القراءة "المكانية الطفيلية"، حيث تتقاطع التجربة النصية مع الأصوات والحرارة والرطوبة وضوضاء المدينة.

لم يكن الشعر الرقمي في بداياته يتخيّل أن يخرج من شاشة الحاسوب إلى قبضة اليد، لكن مع تطور الهواتف الذكية، أصبح بإمكان الشاعر الرقمي أن يحمّل قصيدته شيفرة تفاعلية، تتغير بتغير الموقع الجغرافي للقارئ، كما في تجارب الشاعرة الأمريكية

  J.R. Carpenter  التي أنجزت نصوصاً تعتمد تقنية GPS لتوليد مقاطع شعرية تتغير وفقًا لمكان القارئ. فكل خطوة جغرافية تصبح تلاوة جديدة، وهذا ما يجعل المكان، لا فقط سياقاً، بل مُنتجاً مباشراً للمعنى.

لقد أصبح الهاتف المحمول محرّكًا جغرافيًا للخيال، يتنقّل النص فيه كما تتنقّل الموسيقى، لا يُقرأ مرة واحدة، بل يتفتّح على مراحل: في المصعد، في الميترو، بين نَفَسين، أو قبل النوم. وهذا يغيّر العلاقة بين الكاتب والقارئ: لم يعد الأول ينتج نصّاً كاملاً، ولا الثاني يستهلكه دفعة واحدة، بل نحن في زمن "القراءة المتقطعة" كما يسميها "نيكولاس كار" في كتابه الشهير The Shallows . لقد تحوّل النص إلى شيء يُلتقط كما تُلتقط صورة أو إشعار، وهذا التقطيع الزمني أفرز شكلاً جديداً من "الشعرية المُجزأة"، لا تحتقر الاختزال، بل تُثني عليه.

من هنا، فإن المكان، كما يُستشعر عبر الهاتف المحمول، لا يعود مجرد خلفية للقراءة، بل يصبح نظامًا تأويليًا بذاته. أستطيع أن أقرأ "كافكا" في زقاقٍ معتم، فأشعر بثقل البيروقراطية في الهواء، أو أتصفح "رولان بارت" على الشاطئٍ ، فينقلب تفكيك النص إلى لعبة من الأمواج. بل إن تجربة القراءة ذاتها أصبحت هجينة ومُركّبة، حيث تترابط الجملة المكتوبة بالصورة الملتقطة في المكان، كما لو أن الهاتف بات ساحة لقاء بين النص والعالم.

ولا يمكن إغفال التأثير السياسي لهذا التداخل. فالهاتف المحمول، بما يُوفره من قدرة على القراءة الفورية والكتابة المتزامنة، يجعل من الأدب أداة مقاومة متحركة. يكفي أن يُكتب سطرٌ واحدٌ في لحظة احتجاج، أو على رصيف حدودي، ليحمل توتراً حقيقياً، ومكاناً لا يمكن فصله عن دلالاته. وتجارب الأدب الفلسطيني الرقمي خير مثال على ذلك، كما في نصوص "تميم البرغوثي" المتداولة رقمياً بصيغٍ مرئية ومكانية، تجعل من كل قراءة مشاركةً في جغرافيا المقاومة.

تجربتي الشخصية مع الأدب عبر الهاتف هي أيضاً تجربة جسدية. فأنا أقرأ أحيانًا وأنا أسير، أو وأنا منكمش تحت غطاء في برد ليلي، وأشعر أن كل اهتزاز في يدي يترك بصمته على الجملة. كأن الأدب الرقمي لا يمرّ فقط عبر العين، بل يستقرّ في نبض الإصبع، في اهتزاز اليد، وفي زاوية الانحناء.

في النهاية، ليست الأجهزة المحمولة مجرد وسائط نقل للنصوص، بل هي فضاءات شعرية بديلة، تعيد تموضع الأدب في قلب الحياة اليومية. إنها ليست فقط امتدادًا للذاكرة أو سلاحًا للانتباه، بل هي جسور خفية بين الجملة والشارع، بين الشعر والرصيف، بين الذات والمكان. وهذا ما يجعلني أؤمن بأن مستقبل الأدب الرقمي ليس في التكنولوجيا فحسب، بل في طريقة إعادة اكتشاف المكان عبر شاشة صغيرة... تسكن الجيب، وتحتضن العالم.

0 التعليقات: