لم أعد أنظر إلى الشاشة كما كنت أفعل ذلك من قبل. لم تعد مجرد نافذة أعبر من خلالها نحو النص، بل أصبحت النص نفسه، بل أكثر من ذلك: هي الجسد الذي يتقمص اللغة، يمدّها بالضوء والحركة والصمت أيضاً. ففي كل ومضة من ومضات الحبر الرقمي، وفي كل تموّج من تموجات الصور المتداخلة، أرى كيف يغيّر الحضور البصري جذريًا مفهوم الأدب. أصبحت الشاشة قماشًا جديدًا للرواية، حاملةً في طياتها إمكانيات سردية لم يعرفها الورق يومًا.
في الأدب الرقمي، لم
تعد الكلمات وحدها تكفي. صارت الصورة، والحركة، والتفاعل جزءًا لا يتجزأ من النص. لقد
تجاوزنا العلاقة التقليدية بين القارئ والنص؛ صار القارئ مشاركًا، متصفحًا، متفاعلاً،
أحيانًا يختار المسار السردي، وأحيانًا يبتكر نهاياته. لقد تحدى هذا التحول مفاهيمنا
الكلاسيكية للقراءة والكتابة. كما يذهب الباحث "سكوت رتشارسون" في كتابه
«Electronic
Literature: New Horizons for the Literary، فإن النص الرقمي لا يُقرأ فقط بل يُختبر، يعيش
القارئ داخله كما لو أنه عالم افتراضي قائم بذاته.
أدركتُ وأنا أقرأ رواية
تفاعلية مثل «Twelve
Blue» للوريتا
دنيسكي، أن الشكل البصري للتقديم يغيّر المعنى ذاته. الألوان المتدرجة، الروابط المخفية،
التقطعات الزمانية، جميعها تصنع توترًا سرديًا لا يمكن للورق أن يمنحه بذات الحدة.
فالعين في الأدب الرقمي لا تكتفي بالتلقي، بل تبحث، تنقر، تستكشف. هنا، يتحول النص
إلى فضاء بصري تتحرك فيه اللغة كما تتحرك الموجة في بحر من الإمكانيات.
وليس هذا التحول في
البصرية محصورًا في الشكل فقط، بل يمتد إلى المحتوى. كثير من أعمال الأدب الرقمي تستدعي
عناصر الفيديو، الصور الأرشيفية، الرسوم التوضيحية، وحتى الخرائط التفاعلية، مما يمنح
النص نوعًا من "الواقع المعزز" الأدبي. تمامًا كما يفعل الفنان "مارك
أمريو" في أعماله التي تمزج بين الصوت، الصورة، والنصوص المقتطعة من الذاكرة الجماعية.
هذه التركيبة البصرية ليست تجميلًا بل جزءٌ جوهري من بنية المعنى.
لقد أثار هذا التغيير تساؤلات فلسفية حول طبيعة النص. هل لا يزال النص نصًا إن لم يكن فقط كلمات؟ وهل تصبح اللغة خادمة للصورة في هذا السياق الجديد؟ في دراسته المهمة Reading Moving Letters، " قراءة الحروف المتحركة " يتحدث الباحث نيلسون غودمان عن "الرمزية البصرية" كحقل موازٍ للغة المكتوبة، معتبرًا أن القراءة ليست مجرد فعل لساني، بل أيضًا إدراكي بصري، وأن النص المرئي يتطلب أدوات فهم مغايرة.
ومع ذلك، لا يخلو هذا
الشكل الجديد من التحديات. ثمة من يعتبر أن الإفراط في البصرية يهدد جوهر الأدب، ويُضعف
التخييل الداخلي الذي تبنيه الكلمة المجردة. يقول الروائي إيتالو كالفينو في كتابه «Why Read the Classics» " لماذا نقرأ الكلاسيكيات؟" إن الأدب الجيد
"يصنع السينما داخلك دون الحاجة إلى شاشة"، وهنا أجد نفسي ممزقًا بين لذة
النص المرئي ومتعة الكلمة الخالصة.
لكن الواقع الرقمي
لا ينتظر هذه التأملات. لقد أصبح من الضروري التفكير في البصرية كعنصر جوهري في العملية
الإبداعية، لا كزينة تكميلية. نحن نعيش زمن الصورة: من إنستغرام إلى تيك توك، تتشكل
ذائقتنا من خلال التلقي البصري اللحظي، فهل يمكن للأدب أن يظل خارج هذا الإيقاع؟
في أعمال مثل «Flight Paths» " مسارات الطيران " للكاتبة كيت بولينغ،
نجد أن البصرية لا تقدم الواقع فحسب، بل تعيد تشكيله. الصور الجوية، الخرائط التفاعلية،
ونقاط التلاقي بين النصوص، تصنع تجربة قرائية لا يمكن اختزالها في كلمات. إنها تضع
القارئ في قلب الحدث، لا على هامشه. وهذا، برأيي، هو التحدي الجديد للأدب الرقمي: أن
يكتب بلغة العين دون أن يفقد عمق الروح.
أحيانًا، وأنا أكتب
نصوصي التفاعلية، أشعر أنني لا أكتب فقط، بل "أرسم"، "أبرمج"،
"أصمّم" تجربة كاملة. النص لم يعد يقبع في سطر أو فقرة، بل يتمدد في كل بكسل
على الشاشة. في لحظات كهذه، أفهم تمامًا ما قاله بول إيمون في دراسته عن «Codework،
بأن الكاتب الرقمي يجب أن يكون شاعرًا ومبرمجًا في آنٍ واحد.
قد يقول قائل: إن هذا
التحول سيقضي على الأدب كما نعرفه. لكني أرى العكس تمامًا. الأدب لم يمت يوم دخلت الطباعة،
ولم يتلاشَ أمام السينما، ولن ينتهي في حضرة الذكاء الاصطناعي أو التفاعل البصري. إنه
فقط يتحول، كما يتحول الماء من نهر إلى مطر، ومن موجة إلى بخار.
في النهاية، الشاشة
ليست خصمًا للكتاب، بل امتدادٌ له. هي الورق الذي يتنفس، ينير، يتغير. ولعل الأدب اليوم،
أكثر من أي وقت مضى، يحتاج إلى أن يرى نفسه لا في المرآة، بل في الضوء الذي يصدره،
وفي الصورة التي يبثها. فبين الحرف والضوء، ثمة مستقبل يُكتب الآن، على قماش اسمه:
الشاشة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق