لو عاد محمد البوعزيزي للحياة، وفتح هاتفه النقال ليتصفح أخبار تونس في عهد قيس سعيّد، لظن أنه في نُسخة مقلّدة رديئة من النشرة الرسمية لنظام بن علي... مع اختلاف بسيط: الرئيس هذه المرة يتحدث لغة عربية فصحى لا يفهمها حتى «الخليل بن أحمد الفراهيدي» نفسه.
ربما سيجلس البوعزيزي على رصيف ولاية سيدي بوزيد، يضع رأسه بين يديه، ويهمس بأسى عميق : "سامحني يا بن علي... كنتُ أظنك المشكلة، لكنك كنت مجرد مقدمة في كتاب الاستبداد التونسي، أما قيس فهو فصله الفلسفي العميق!".
تونس، التي خرج شبابها
هاتفين "شغل، حرية، كرامة وطنية"، تحوّلت في زمن قيس سعيّد إلى جمهورية تبحث
عن شغل للرئيس، وحرية للرئيس، وكرامة للرئيس... أما المواطن؟ فقد تم تأميم صوته وأرائه
وحصصه في الخبز والديمقراطية.
يُقال إن قيس سعيّد
درس القانون الدستوري. هذا صحيح، لكنه يبدو وكأنه استوعب الدستور كوثيقة شخصية، يستخدمها
لكتابة خطبه الطويلة التي تشبه تعاويذ بابليّة، لا تُفضي إلى شيء سوى صداع وطني مزمن.
في عهد بن علي، كنا
نعرف على الأقل من هو الحاكم، من هو المُعارض، من هو المنفي، ومن هو "الرخّام".
اليوم؟ الجميع في قبضة "الاستفتاء". كل من يتنفس يخضع للتأويل، وكل من يسأل
يُتهم بالتآمر على أمن الدولة.
أما قيس، فهو في قصر
قرطاج، يحاور نفسه أمام الكاميرا، يقرأ رسائل المواطنين وكأنهم أطفال يراسلونه من معسكر
صيفي. يتكلم عن "التطهير"، عن "السيادة"، عن "القوى الخفية"
عن "المؤامرات الخارجية " ... تمامًا كما كان يفعل كل مستبدّ في أولى مراحل
هذيانه السياسي.
لو عاد البوعزيزي،
لرأى أن النار التي أضرمها في جسده، لم تحرق الظلم كما تخيّل، بل أشعلت شمعة صغيرة
في نفق طويل، ثم جاء من أطفأها بيديه وباسم "إرادة الشعب".
هل كان بن علي فاسدًا؟
نعم. لكنه على الأقل لم يقل لنا إن الوطن سينهض بخطابات شبيهة بنشرات لغوية في برنامج
تعليمي.
قيس سعيّد لا يحكم،
بل يلقي خطبًا على الهواء. لا يصنع السياسة، بل يدوّرها في رأسه مثل طاحونة هواء. لا
يؤمن بالحوار، بل يرى في كل اختلاف "مشروع مؤامرة كونية يقودها تجار الدين، والعملاء،
والماسونية العالمية، وربما المريخيين".
ربما كان سيطالب محمد
البوعزيزي بلقاء مع بن علي في منفاه، لا ليعتذر له فقط، بل ليسأله: "كيف كنت تتحمل
كل هذه الضغوط، وتبقى على الأقل تتكلم بالدارجة؟"
في النهاية، لم يكن
البوعزيزي يحلم بجمهورية فصحية تُدار بمنشورات على فيسبوك، ولا برئيس يُقسم على الدستور
بيد، ويمزّقه باليد الأخرى، ثم يقول: "الشعب يريد وأنا المُعبّر الوحيد عنه".
سامحنا يا بوعزيزي،
فقد أوصلنا "صندوق الاقتراع" إلى قصر أصبح فيه الرئيس هو السؤال... وهو الجواب...
وهو الشعب... وهو القاضي... وهو المعارض... وهو المذيع الرسمي لمسرحية لم يضحك فيها
أحد.»
لكن لا تقلق، فحتى
لو اعتذرت من بن علي، لا أحد سيجرؤ على نشر اعتذارك في التلفزيون الرسمي... لأنه مشغول
الآن ببث الخطب البلاغية الفصيحة للسيد الرئيس عن "السيادة الوطنية"، بصوت
مَن لا يملك حتى مفتاح الكلمة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق