الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، يوليو 26، 2025

الكتاب الورقي مقاومة في عصر السرعة الرقمية: عبده حقي


منذ ظهور القارئات الإلكترونية والهواتف الذكية وتطبيقات القراءة الرقمية، تكررت نبوءات زوال الورق كما لو كانت طقسًا تكنولوجيًا دوريًا. لكن الكتاب الورقي، رغم كل هذه العواصف، لا يزال حيًا، متماسكًا، بل ويعيش أحيانًا صحوة مفاجئة، كما حدث بعد جائحة كورونا حين ارتفعت مبيعات الكتب الورقية في أوروبا وأمريكا.

الكتاب الورقي ليس مجرد وسيلة لنقل المعرفة، بل تجربة حسيّة كاملة. رائحة الورق، ملمس الصفحات، صوت تقليبها، كلها تفاصيل تتجاوز وظيفة القراءة لتدخل في طقس شعائري يربط القارئ بالكتاب كما لو كان يلامس شيئًا مقدسًا. في زمن الشاشات المتوهجة والتنبيهات المشتتة، يوفّر الورق ملاذًا للتركيز والهدوء البصري. كثير من القرّاء يعترفون بأنهم لا يستطيعون التفاعل العاطفي ذاته مع النصوص الرقمية كما يفعلون مع الكتاب الورقي.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن العالم يتغيّر. النشر الرقمي أصبح أكثر كفاءة وأقل تكلفة. الكتب المدرسية، الموسوعات، والمراجع العلمية باتت تنتقل تدريجيًا إلى الصيغ الرقمية، خاصة في الجامعات والمكتبات الكبرى. الأطفال يحملون لوحات إلكترونية بدل حقائب مثقلة بالكتب، والباحثون يفضلون النسخ الإلكترونية القابلة للبحث والتحميل السريع. حتى المجلات والصحف، التي كانت في يوم ما جزءًا من الطقوس اليومية، تراجعت أمام شاشات الهواتف والأجهزة اللوحية.

البيئة بدورها تلعب دورًا في هذا التحول. فصناعة الورق تستهلك ملايين الأشجار، كما تحتاج إلى كميات هائلة من الماء والطاقة، مما يجعل النشر الرقمي يبدو، في الظاهر، خيارًا أكثر صداقة للبيئة. لكن المفارقة أن الأجهزة الرقمية نفسها تعتمد على معادن نادرة، وتستهلك طاقة لا يستهان بها، وتخلف نفايات إلكترونية يصعب تدويرها. البيئة هنا ليست مسألة ثنائية بين "الورق الجيد" و"الشاشة السيئة"، بل معادلة معقدة تتطلب موازنة دقيقة بين الاستهلاك والاستدامة.

الأكثر إثارة في قصة الكتاب الورقي هو بعده الرمزي. في الوعي الجمعي، لا يزال الكتاب الورقي مرادفًا للمعرفة الرصينة، للمكتبات العريقة، وللحضارة ذات الذاكرة الطويلة. كتاب على الرف يُعد شهادة على الذوق، الهوية، والانتماء الثقافي. ومن هنا نفهم لماذا لا يزال السياسيون والمثقفون يحرصون على التقاط الصور وهم يتصفحون كتبًا ورقية، رغم أنهم يمتلكون أجهزة قادرة على تخزين آلاف الكتب في راحة اليد.

السؤال إذن ليس: "متى سيختفي الكتاب الورقي؟" بل: "لماذا لم يختفِ بعد، رغم كل ما حدث؟". والإجابة تكمن في أن الورق يقاوم، ليس فقط بالتاريخ والحنين، بل أيضًا بقدرة عجيبة على التجدد والتموضع. ربما لم يعد الكتاب الورقي هو الوسيلة الأولى لاستهلاك المعرفة، لكنه يتحول إلى شيء أسمى: رمز ثقافي، قطعة فنية، هدية تحمل معاني الانتباه والاهتمام.

في المستقبل، سيواصل الورق تراجعه في بعض المجالات، خصوصًا التعليم والمجلات والمرجعيات العلمية. لكن في المقابل، سيظل محتفظًا بمكانته في الروايات، الشعر، والكتب الفلسفية، أي ذلك النوع من الأدب الذي يُقرأ ببطء، ويُعاد، ويُهدى، ويُوضع على الرف كتذكار ورفيق. سيبقى الكتاب الورقي لمن يبحث عن معنى لا تلتقطه الشاشات، عن دفء لا تُولّده الكهرباء.

ختامًا، يبدو أن ما ينتظرنا ليس اختفاءً تامًا للورق، بل تعايش ذكي بين الرقمي والمطبوع، حيث تتحول العلاقة بين الإنسان والنص إلى تجربة متعددة الوسائط. سيظل هناك دائمًا من يفتح كتابًا ورقيًا في قطار، أو مقهى، أو تحت شجرة، كما لو كان يتحدى الزمن ليقول: "أنا أقرأ... إذن أنا ما زلت إنسانًا".

0 التعليقات: