أصبحت الصحافة الرقمية أداة لا يمكن تجاهلها في مسارات النضال من أجل العدالة الاجتماعية. لم تعد الكلمة حكراً على الصحف الورقية أو استوديوهات التلفزة، بل أضحت الرقمنة نافذة مفتوحة على العوالم المهمّشة، ومنصّة يعبر منها صوت المظلومين، ومرآةً تعكس الظلال المنسية في زوايا المجتمعات.
الصحافة الرقمية، بكل ما تحمله من مرونة وانتشار فوري، كسرت احتكار السلطة على رواية الأحداث. لم يعد الفقير، أو اللاجئ، أو ضحية العنصرية مجرّد رقم في تقرير رسمي، بل بات بإمكانه أن يصبح خبراً يتفاعل معه الملايين، وصورة تتداولها الشاشات، وصرخةً تجد من يسمعها في أقصى بقاع الأرض. هنا يكمن أحد أهم أدوار الصحافة الرقمية في تعزيز العدالة الاجتماعية: إعادة تعريف من يحق له أن يُرى ويُسمع.
لكن هذه الوظيفة التحررية
لا تأتي دون شروط. فالمصداقية، التي لطالما كانت حجر الزاوية في الصحافة التقليدية،
يجب أن تُستعاد وتُعاد إنتاجها في البيئة الرقمية. فكم من حملات تضامن انطلقت من تغريدة،
وكم من قضايا عمالية أو بيئية أو نسوية أُثيرت عبر منصات إلكترونية قبل أن تلتقطها
كبريات الصحف. هذه التحولات، وإن بدت فوضوية أحياناً، فإنها تعبّر عن تغير عميق في
هندسة السلطة الإعلامية، وانتقال مركز الثقل من النخب إلى الجمهور، من الأعلى إلى القاعدة.
تُظهر تقارير «منظمة
"مراسلون بلا حدود"« أن المواقع الإلكترونية في دول الجنوب، رغم قمع الحكومات،
أضحت ملاذاً آمناً لنشر انتهاكات حقوق الإنسان. وعلى سبيل المثال، استطاعت منصات رقمية
مستقلة في السودان وتونس ولبنان أن تنقل وقائع القمع والتهميش وفساد النخب في وقت كانت
فيه القنوات الرسمية تُغلف الواقع بالمساحيق. كذلك، فإن المبادرات الصحفية القائمة
على البيانات المفتوحة – كما في موقع
«The
Marshall Project» في الولايات المتحدة – قدمت نماذج فعّالة في محاسبة
النظام القضائي على خلفية التمييز العنصري ضد السود.
وفي السياق العربي،
شكلت ثورات 2011 لحظة فارقة في إبراز كيف يمكن للإعلام الرقمي أن يكون حليفاً للعدالة
الاجتماعية، لا مجرد ناقل للأحداث. لقد أسهمت منصات مثل «نواة» في تونس و» مدى مصر»
في كسر التعتيم على ممارسات السلطة، وأعادت ترتيب سلم الأولويات التحريرية بما يتلاءم
مع صوت الشارع، لا إملاءات الدولة أو الإعلانات.
غير أن السؤال الذي
يفرض نفسه في هذا السياق هو: هل تستطيع الصحافة الرقمية أن تستمر في أداء هذا الدور
في ظل تصاعد الرقابة والخوارزميات الموجهة؟ الإجابة ليست سهلة، فكما أن الرقمنة حررت
الخطاب من قبضة الدولة، فإنها أيضاً سلّمته إلى خوارزميات شركات التكنولوجيا الكبرى.
خوارزميات لا تفهم العدالة، بل تفهم التفاعل، لا تبحث عن الحقيقة، بل عن الربح. وهكذا،
قد تطمس قضايا الطبقات الهشة في زحام التريندات.
العدالة الاجتماعية
لا تتحقق فقط بعرض المعاناة، بل بفهم أسبابها البنيوية، وتفكيك نظم الامتياز، وفضح
آليات الإقصاء. وهذا ما يجب أن تركز عليه الصحافة الرقمية. لا يكفي أن ننشر قصة لاجئة
أو صورة عامل مهاجر، بل يجب أن نضع ذلك ضمن سياق اقتصادي وسياسي يُسائل البنية لا الفرد،
السياسات لا الأعراض. وهنا، يبرز دور ما يُسمى بـ"الصحافة الحليفة " (ally
journalism)،
والتي لا تكتفي بالرصد، بل تنخرط في الدفاع وتقديم الحلول، دون السقوط في فخ التبشير
أو الإنشاء.
ولعل المفكر الإسباني
«مانويل كاستلز»، في كتابه "شبكات الغضب والأمل"، قد أشار بوضوح إلى أن الشبكات
الرقمية باتت المجال العام الجديد، حيث يُعاد تشكيل الوعي الجمعي وتُخاض المعارك الرمزية
الكبرى. العدالة الاجتماعية في هذا الفضاء لم تعد مسألة مؤسسات فقط، بل مسألة سرديات
ومضامين. ومن يتحكم في السرد، يتحكم في الذاكرة، وفي المستقبل.
لذلك، فإن الصحافة
الرقمية – رغم هشاشتها أمام القوى الكبرى – تظل إحدى الجبهات الأكثر ديناميكية في معركة
الإنسان من أجل كرامته. هي ليست بديلاً عن النضال السياسي أو الإصلاح التشريعي، لكنها
تشكل ساحة مهمة من ساحات المعنى، حيث تتقاطع القصص الفردية مع القضايا الجمعية، ويصبح
للضعفاء من يروي حكايتهم، لا بلسان الغالبين، بل بلسان الذات.
في الختام، يمكن القول
إن الصحافة الرقمية لا تغيّر العالم وحدها، لكنها تتيح لنا أن نرى العالم بطريقة مختلفة
– وهذا، في حد ذاته، هو بداية كل تغيير.
0 التعليقات:
إرسال تعليق