الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، يوليو 26، 2025

قراءة في كتاب "مجتمع الشفافية" للكاتب بينغ-تشول : ترجمة عبده حقي


في كتابه "مجتمع الشفافية " (The Transparency Society)، يقدم الفيلسوف الكوري الألماني بيونغ-تشول هان نقدًا صارخًا وحديثًا للمجتمع النيوليبرالي المعاصر، حيث يتم رفع شعار "الشفافية" إلى مرتبة الفضيلة العليا، ويتم تسويقها باعتبارها الوسيلة المثلى لتحقيق الثقة، النزاهة، والديمقراطية. لكن ما يبدو لأول وهلة قيمة إيجابية، يفككه هان بمنهجية حادة، ليكشف عن الوجه المظلم للشفافية: مجتمع المراقبة الذاتية، السطحية، فقدان الثقة، والتشييء الكامل للعلاقات الإنسانية.

ينطلق هان من فرضية أساسية مفادها أن المجتمع المعاصر قد انتقل من مجتمع الانضباط (كما حلّله ميشيل فوكو) إلى مجتمع الإنجاز، ومن ثَمّ إلى مجتمع الشفافية. ففي حين كان الانضباط يرتكز على القمع، فإن مجتمع الإنجاز يُنتج الذات كمشروع يجب أن يُنجز، أما مجتمع الشفافية، فيدفع بالأفراد إلى نزع الحجاب عن كل شيء، وتحويل الذات إلى سلعة مرئية خاضعة للاستهلاك العام.

يرى هان أن الشفافية، على عكس ما تدعيه من تحرر ومساواة، تؤدي في الواقع إلى آليات جديدة من الرقابة والسيطرة. إنها لا تحتاج إلى سلطة عليا تقمع أو تراقب؛ بل تُمارس عبر رغبة الأفراد أنفسهم في الكشف، في مشاركة كل تفاصيلهم، وفي التنافس على الظهور والمصداقية الرقمية. يتحدث هان هنا عن "العُري الرقمي"، الذي يجعل الإنسان شفافًا، مكشوفًا، بلا عمق ولا خصوصية.

في هذا السياق، تصبح شبكات التواصل الاجتماعي مثالًا حيًا على هذه الآلية الجديدة للسيطرة. فالفرد لا يُجبر على عرض حياته، بل يفعل ذلك طوعًا، مدفوعًا برغبة في الاعتراف والقبول. وهنا تتحول الحرية إلى شكل من أشكال الاستعباد الذاتي. وبذلك يقترب هان من طروحات المفكر الفرنسي "جيل دولوز" حول "مجتمع الرقابة"، حيث لم تعد السلطة قمعية تقليدية، بل أصبحت موزعة، ناعمة، غير محسوسة.

يذهب هان أبعد من ذلك في تفكيك العلاقة بين الشفافية والثقة، إذ يعتبر أن الشفافية لا تولّد الثقة كما يُشاع، بل تحل محلّها. فالثقة تتطلب غموضًا ومسافة، تتطلب أن أؤمن بما لا أراه، أما الشفافية فتفرض رؤية كاملة، وبالتالي نفيًا لأي عنصر من عناصر الإيمان. وهكذا، فإن مطالبة الآخرين بالكشف الكامل تصبح في جوهرها نوعًا من عدم الثقة، وتُستبدل العلاقات المبنية على الثقة بعلاقات خاضعة للرقابة والافتراضات الرقمية.

ومن هنا، يتجلى البُعد النقدي للفكر الهاني: ما يُقدّم بوصفه تحريرًا، هو في الواقع شكل من أشكال العبودية الجديدة، عبودية الضوء. فنحن نعيش اليوم تحت ضوء شمسي دائم، بلا ظلال، بلا أسرار، بلا عمق. وهذا النور ليس إلا أداة جديدة للسلطة، حيث تصبح الذات موضوعًا للاستهلاك والمراقبة.

يتتبع هان أيضًا الأثر الاقتصادي لمجتمع الشفافية، حيث تتحول الحياة اليومية إلى بيانات، والسلوك البشري إلى خوارزميات. كل شيء يُقاس، يُراقب، يُقيم: من عدد الخطوات إلى ساعات النوم، من نقرات الشاشة إلى مستوى السعادة المُعلن على مواقع التواصل. وهكذا، تنخفض قيمة الإنسان إلى مجرد معلومات قابلة للاستثمار أو البيع.

يُستبدل الفرد، كما يرى هان، بـ"البيانات الذاتية " (self-data)، ويُفقد المعنى لصالح الكفاءة، ويُفقد العمق لصالح السرعة، ويُفقد التأمل لصالح الفعالية. هذه الأبعاد تشكل ما يسميه "عنف الشفافية"، حيث تُنتزع الخصوصية وتُفرض ثقافة التقييم والتصنيف.

لا يغفل هان البُعد النفسي لمجتمع الشفافية. ففي ظل هذا النظام، يصبح كل فرد مشروعًا تسويقيًا لذاته. تتعاظم النرجسية، ويغدو الاعتراف الرقمي (الإعجابات، المشاركات، عدد المتابعين) معيارًا للقيمة الشخصية. تتلاشى الحياة الداخلية لصالح الانكشاف المستمر، وينهار الفارق بين الحياة الخاصة والعامة.

وفي مفارقة دقيقة، يشير هان إلى أن الانكشاف الدائم لا يؤدي إلى معرفة أعمق بالذات أو بالآخر، بل إلى تسطيحها. فكلما زاد ما نكشفه، قلّ ما نفهمه. وتتحول الشفافية إلى قناع جديد يخفي ما لا يُقال، ويمنع الصمت، ويقمع الغموض.

"مجتمع الشفافية" ليس دعوة للعودة إلى الظلام أو التستر، بل هو نداء للدفاع عن الغموض، عن المسافة، عن الحق في الصمت. هان لا ينكر أهمية الوضوح في بعض المجالات، كالحكامة أو محاربة الفساد، لكنه يميز بين شفافية مؤسساتية وبين شفافية وجودية تُفرض على الأفراد. فالأولى مشروعة، أما الثانية فتهدد جوهر الإنسان.

إن كتاب هان يمثل لحظة فلسفية شجاعة في مواجهة روح العصر، حيث يندفع العالم نحو مزيد من الانكشاف غير المدروس. إنه ينبهنا إلى أن الإنسان لا يكتمل في وضوحه، بل في توتره بين الخفاء والانكشاف، بين الحضور والغياب، بين الكلمة والصمت. ومجتمع لا يعرف إلا الشفافية، هو مجتمع يفقد إنسانيته تدريجيًا، ويُحوّل الحياة إلى عرض دائم على شاشة بلا نهاية.

0 التعليقات: