الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، يوليو 26، 2025

الجزائر بين عبث السلطة ومسرح المصالح الأجنبية: عبده حقي


في مشهد يزداد غرابةً يوماً بعد يوم، تُبرز السياسات المتخبطة للسلطات الجزائرية حجم التدهور الذي أصاب مؤسسات الدولة وأجهزتها السيادية. فالمؤشرات المتراكمة لا تكشف فقط عن ارتباك في إدارة الشأن العام، بل تؤكد أن الجزائر تعيش حالة من "الفراغ المؤسساتي الموجّه"، حيث تتآكل صلاحيات الوزراء، وتُسلب الدولة قراراتها السيادية، وتُسخَّر ثرواتها خدمةً لأجندات خارجية أو لمصالح شخصية ضيقة داخل النظام نفسه.

في سابقة فريدة من نوعها، كشفت تقارير إعلامية أن الوزراء الجزائريين لم يعودوا يملكون حتى أبسط صلاحياتهم، من تعيين أو إقالة موظفين في قطاعاتهم. هذا الواقع لا يعكس فقط انعدام الثقة بين السلطة المركزية وممثليها في الحكومة، بل يؤشر إلى تآكل هرم القرار السياسي وتحوّله إلى جهاز بيروقراطي خاضع لإرادات غير شفافة، غالبًا ما تنبع من مراكز قوة غير دستورية، سواء داخل المؤسسة العسكرية أو شبكات المصالح الاقتصادية.

هذه الهشاشة المؤسساتية تنعكس كذلك في علاقات الجزائر الخارجية، خاصة مع إيطاليا. فعلى الرغم من الخطاب الرسمي المفعم بشعارات السيادة والمصلحة الوطنية، تشير الحقائق إلى أن الغاز الجزائري يُباع لإيطاليا بأسعار زهيدة لا تعكس القيمة السوقية الحقيقية. وبدلاً من توظيف هذا المورد الاستراتيجي لصالح التنمية الداخلية، يتم تقديمه كهبة دبلوماسية هدفها شراء المواقف أو كسب دعم سياسي في المحافل الدولية، في علاقة غير متكافئة تجعل من روما المستفيد الأكبر دون أي مقابل فعلي يعزز مكانة الجزائر.

الخلل لا يتوقف عند حدود العلاقات الخارجية، بل يمتد إلى الداخل، حيث تحوّل الطموح السياسي إلى تهمة تزجّ بصاحبها في السجن. قضية الوزير السابق خُمري تُشكل نموذجًا فاضحًا لهذا العبث، إذ لم يُعاقب الرجل على جريمة مالية مثبتة، بل لأنه تجرأ على التفكير في كرسي الرئاسة، وهو ما يُعتبر في عرف النظام الحاكم "خيانة كبرى". إن سجن مسؤول لمجرد حيازته لطموح سياسي، يفضح وهم التعددية السياسية في الجزائر، ويؤكد أن النظام لا يحتمل سوى الولاء الأعمى، ويعتبر أي تفكير في التداول السلمي للسلطة مؤامرة تستوجب العقاب.

أما في المشهد الدبلوماسي، فقد فجّرت تصريحات برونو ريتايو، السيناتور الفرنسي المعروف، قنبلة سياسية مدوية حين كشف عن وجود "حقائب دبلوماسية" جزائرية يتم استغلالها لأغراض غير مشروعة، وهو ما أثار موجة غضب عارمة لدى المسؤولين الجزائريين. ولكن بدلاً من فتح تحقيق شفاف يطوّق الاتهامات، اختارت الجزائر كالعادة خطاب التنديد الوطني الذي يخفي تحت عباءته عجزًا مزمنًا عن مواجهة الفساد المتغلغل داخل مفاصل السلطة.

ما يجري اليوم في الجزائر لا يمكن عزله عن طبيعة النظام نفسه: نظام مغلق، يعادي التعددية، ويُحكَم من وراء الستار، ويرى في المواطنين مجرد رعايا يجب مراقبتهم، لا شركاء في القرار. نظامٌ فاشي يفشل في استثمار ثروات البلاد لصالح شعبها، ويفضل بيع الغاز بثمن بخس على أن يستثمره في الصحة أو التعليم أو التشغيل. نظامٌ يعتقل الطامحين، ويُفرغ المؤسسات من مضمونها، ويصادر السياسة باسم الأمن، بينما يتساقط رموزه تباعًا إما خلف القضبان أو في مهاوي الفضيحة.

إن الجزائر اليوم، وهي تقف على مفترق طرق، لا تحتاج إلى شعارات جوفاء أو تصفية حسابات داخلية، بل إلى إصلاح جذري يعيد السيادة إلى مؤسساتها، ويضمن الشفافية في إدارة ثرواتها، ويفتح المجال أمام التعدد والتداول السلمي للسلطة. وكل تأخير في هذا المسار لا يعني إلا استمرار الاستنزاف والانهيار، داخلياً وخارجياً.

0 التعليقات: