الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، يوليو 26، 2025

بين شرعية الحكم الذاتي وزيف دعاية الانفصال: عبده حقي


في خضم تصاعد الحملات الإعلامية المغرضة التي تقودها جبهة البوليساريو وبعض الجهات الداعمة لها في الخارج، يظهر بجلاء أن النزاع حول الصحراء المغربية لم يعد مجرد قضية تصفية استعمار، بل أصبح مرآة تعكس صراعًا أوسع بين مشروعين متناقضين: مشروع يسعى إلى ترسيخ السلم الإقليمي والتنمية المستدامة، ومشروع يعيش على وهم الانفصال، ويقتات من المآسي الإنسانية ومن خطاب الضحية المفتعل.

خلال الأيام الأخيرة، برزت عدة مواقف وتصريحات أعادت تأكيد الدعم الدولي المتنامي لخطة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب منذ سنة 2007، كحل واقعي وجاد لإنهاء هذا النزاع المفتعل. من أبرز هذه المواقف، إعلان وزير الخارجية البرتغالي، باولو رانجيل، الذي وصف المبادرة المغربية بالحكيمة والموثوقة، معتبرًا إياها الأساس الأنسب لحل سياسي نهائي ومتوافق عليه. إن هذه الإشادة لم تأتي من فراغ، بل تعكس انسجام الرؤية البرتغالية مع قرارات مجلس الأمن المتتالية، التي تدعو إلى حلول سياسية واقعية وقابلة للتطبيق.

في المقابل، تُواصل جبهة البوليساريو اعتماد سرديات عفى عليها الزمن، متكئةً على قاموس "الاحتلال" الهش و"الطمس الثقافي" المضلل، كما جاء في بيان ما يسمى بـ"المرصد الصحراوي للطفولة والمرأة بالعيون المحتلة"، والذي لا يعدو أن يكون واجهة دعائية تابعة للبوليساريو، تستخدم قضايا الطفولة والمرأة لتأثيث خطابها المتهاوي. فمن المثير للسخرية أن تتحدث هذه الهيئة عن "طمس هوية المرأة والطفل الصحراوي"، في حين تشهد مدن الأقاليم الجنوبية، كالعيون والداخلة، والسمارة وبوجدور نهضة تعليمية واجتماعية غير مسبوقة، تُترجمها البنيات التحتية، والمبادرات الثقافية، والمشاركة الواسعة للنساء في الحياة السياسية والاقتصادية، بل وفي تسيير الشأن المحلي.

أما في أمريكا اللاتينية، فقد عبّر رئيس مجلس الشيوخ المكسيكي، جيراردو فرنانديز نورونيا، عن "خيبة أمله" من عدم تنظيم استفتاء تقرير المصير. إلا أن هذا التصريح، المنفصل عن السياق القانوني والسياسي الحالي، يتجاهل جملة من الحقائق: أولها أن خيار الاستفتاء تجاوزه الواقع الدولي منذ سنوات، بعدما ثبت استحالته تقنيًا وسياسيًا، وثانيها أن الأمم المتحدة لم تعد تتحدث عن "استفتاء"، بل عن "حل سياسي متوافق عليه"، وهو ما ترفضه البوليساريو باستمرار، متمسكة بخيار واحد ووحيد، وهو الانفصال.

ومن الجدير بالذكر أن الأصوات المؤيدة للبوليساريو في بعض الدوائر السياسية الإسبانية لا تعكس بالضرورة موقف الدولة الإسبانية ككل، بقدر ما تمثل امتدادًا لخطاب إيديولوجي يساري متعاطف مع القضية من منطلقات "ثورية" قديمة تعود لسنوات الحرب الباردة ، غير مدركة لتحولات السياق الجيوسياسي. الاجتماع الأخير بين شابا سيني، الأمينة العامة للاتحاد الوطني للنساء الصحراويات، ورئيسة اتحاد المؤسسات الإسبانية المتضامنة مع البوليساريو، لا يخرج عن هذا الإطار العاطفي المتكلّس، الذي لا يعترف بأن الواقع في الصحراء تغيّر مئة بالمئة ، وأن التنمية تسير بخطى ثابتة، وأن أغلب الصحراويين يعيشون اليوم في كنف الاستقرار المغربي، ويشاركون في بناء وطنهم، بعيدًا عن خطاب التجييش والتفرقة.

المغرب، من جهته، لم يتعامل مع هذا الملف بمنطق القطيعة أو التصعيد، بل اعتمد دبلوماسية الوضوح والاقتراح، حيث لا تزال مبادرة الحكم الذاتي مطروحة كأفق لحل يحفظ كرامة الجميع، ويضمن للأقاليم الجنوبية تدبيرًا ذاتيًا موسعًا في إطار السيادة الوطنية. وهي مبادرة تحظى بدعم أكثر من أربعين دولة عبر العالم، منها قوى مؤثرة على الصعيد الأممي.

الرهان المغربي اليوم لم يعد فقط إقليميًا، بل دوليًّا، يراهن على التنمية كمفصل استراتيجي للشرعية، وعلى احترام التعدد الثقافي في إطار الوحدة المغربية. كما أن مشروع الحكم الذاتي المغربي يُعدّ نموذجًا يمكن استلهامه في مناطق أخرى تعرف نزاعات مماثلة، باعتباره يوفق بين مطلب الاعتراف بالخصوصية، ومبدأ وحدة الدول وسيادتها.

إن المعركة الحقيقية ليست فقط ضد خطاب الانفصال البائد، بل ضد من يريدون إبقاء المنطقة رهينةً للنزاع المفتعل، حفاظًا على مصالح ضيقة أو على ذاكرة أيديولوجية فقدت صلاحيتها. ومن هنا، فإن تكذيب ادعاءات البوليساريو لا ينبغي أن يتم فقط عبر الخطاب الرسمي، بل عبر إبراز الواقع الميداني، والانخراط الحقيقي في تنمية الأقاليم الجنوبية، وتوسيع إشعاعها الاقتصادي والثقافي.

وفي نهاية المطاف، فإن الصحراء ليست فقط قضية حدود، بل قصة انتماء عميق، اختار فيه المغاربة، بصوت جماعي، أن يكتبوا مستقبلهم بأيديهم، لا بأقلام المزايدات.

0 التعليقات: