الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، يوليو 30، 2025

كيف غيّرت الصحافة الرقمية وجه التغطيات الثقافية؟ عبده حقي


جاءت الصحافة الرقمية لتخلخل بنية التغطية الثقافية وتعيد تشكيل معالمها بوسائط جديدة ومنصات غير تقليدية. فقد صار النصّ الثقافي يولد أحيانًا من رحم "تغريدة"، ويُناقش في خيوط "فيسبوكية"، ويُؤرشف على هيئة فيديوهات قصيرة تجتذب ملايين المتابعين.

لقد أسهمت التحولات الرقمية في توسيع الفضاء العمومي الثقافي، بحيث لم يعد النخبة وحدهم من يصوغون الخطاب الثقافي أو يتحكمون في إنتاجه وتداوله. بل ظهرت أصوات شابة ومهمشة تمارس "صحافة ثقافية رقمية" من الهامش، وتعيد إنتاج المعنى خارج المؤسسات التقليدية. وهذا ما نبهت إليه الباحثة "كريستين هارنيش" في دراستها حول التحولات الرقمية في الإنتاج الثقافي، حيث رأت أن "التكنولوجيا قد نزعت قداسة المثقف الورقي، وأتاحت للثقافة أن تُنتج من الشارع، ومن التجربة اليومية، لا من فوق برج عاجي."

لكن هذا التحول لا يخلو من إشكالات بنيوية. فالصحافة الرقمية، رغم ما أتاحته من تنوع في المنابر والفاعلين، وقعت في فخ "الترند" و"خوارزميات الجذب"، التي كثيرًا ما تدفع نحو تفضيل المضامين السطحية والمثيرة على حساب العمق التحليلي. فنصّ نقدي معمق عن تطور القصيدة الحديثة قد لا يحظى بربع عدد القراءات التي تحصدها تدوينة عن "الجدل حول لباس فنانة في مهرجان سينمائي".

بل إن بعض الباحثين، مثل "باول بوفر" في كتابه

«The Digital Divide and Cultural Journalism»، ذهب إلى القول إن الصحافة الثقافية في العصر الرقمي تعاني من "أزمة ثقة" بين جدّية المضمون ومتطلبات السوق الرقمية. وهذا ما يطرح سؤالاً أخلاقيًا وفلسفيًا حول ما إذا كانت الثقافة تُنتَج اليوم للاستهلاك السريع، أم للحفر في الذاكرة والوعي الجمعي.

في السياق العربي، يبدو المشهد أكثر تعقيدًا. فقد تداخلت الصحافة الثقافية الرقمية مع خطاب الهوية، وأصبحت كثير من التغطيات تحمل طابعًا سياسيًا أو أيديولوجيًا مقنّعًا بلغة الثقافة. كما لعبت المنصات الرقمية دورًا في تسليع الفعل الثقافي وتحويله إلى منتَج بصري سريع الزوال. نرى ذلك بوضوح في التغطيات الفيسبوكية للمعارض والمهرجانات، حيث تُختزل الفعالية في صور للمشاهير ولقطات للديكور، دون نقاش جاد حول المضامين أو جدوى الحدث الثقافي نفسه.

وفي المقابل، ظهرت تجارب رقمية جادة تسعى لتقديم بديل نقدي وتوثيقي حقيقي. منصات مثل "كتبنا" و"المنصة" و"باب المندب" في مصر، أو مجلة "معازف" الموسيقية، تُعد نماذج على كيف يمكن للصحافة الرقمية أن تحافظ على بعد تحليلي وتوثيقي، وأن تقدم نقدًا ثقافيًا يضاهي من حيث الجدية ما كان يُكتب في الملاحق الورقية القديمة.

كما أن العلاقة بين الصحافة الرقمية والفاعلين الثقافيين تغيّرت. فالأديب لم يعد ينتظر صحافيًا متخصصًا كي يُعَرِّف الناس بعمله، بل صار يملك قناته ومساحته على "يوتيوب" أو مدونته الخاصة. لكن هذا الانفتاح أفرز بدوره فجوة بين ما يُكتب بعين نقدية، وما يُروّج بعين تسويقية، مما جعل حدود الصحافة الثقافية تذوب أحيانًا في فوضى "المحتوى".

الصحافة الرقمية، بهذا المعنى، ليست مجرد وسيلة جديدة، بل هي فضاء يعيد تشكيل المفاهيم: من هو المثقف؟ ما معنى النقد؟ ومن يملك سلطة التأويل؟ وقد يكون أكبر أثر أحدثته هذه الثورة الرقمية هو زوال المركز الثقافي الواحد، وظهور مراكز متعددة، لا تخلو من الصراع، لكنها تعبّر عن تعددية الصوت الثقافي المعاصر.

في النهاية، لا يمكن الجزم بأن الصحافة الرقمية قتلت الصحافة الثقافية الورقية، كما لا يصح القول إنها أطلقت عهدًا جديدًا أكثر إشراقًا. هي ببساطة زمن جديد، فيه من الزخم والضجيج ما يُحتِّم على المشتغلين بالثقافة أن يتقنوا الإنصات وسط صخب البيانات، وأن يعيدوا ابتكار أدوات الكتابة، دون أن يتخلوا عن حسّهم النقدي وتاريخهم الممتد.

في زمن تُكتب فيه الثقافة بلغة الخوارزميات، تبقى الكتابة النقدية الرصينة مقاومة، كجمرة مخفية تحت رماد المحتوى العابر.

0 التعليقات: