الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، أغسطس 18، 2025

المغرب في مرآة عصره الحديث : (3) تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية . ملف من إعداد عبده حقي


مع حصول المغرب على استقلاله سنة 1956، لم تنتهِ معركة القوى الوطنية، بل انتقلت من جبهة مقاومة الاستعمار إلى جبهة إعادة بناء الدولة وتحديد طبيعة النظام السياسي الجديد. وطوال سنتي 1956 و1957 ظل حزب الاستقلال القوة السياسية المهيمنة، بفضل مكانته في الحركة الوطنية، واستنادًا إلى قدرته على التوفيق بين القصر والكتلة الوطنية. غير أن هذه المرحلة حملت في جوفها بوادر انشقاقات فكرية وتنظيمية، سيّما داخل الجناح اليساري للحزب، الذي بدأت تتعالى أصواته مطالبة بانتقال حقيقي نحو الديمقراطية الاجتماعية، وإرساء نموذج اقتصادي يقوم على إعادة توزيع الثروة ودعم العالم القروي.

بحلول سنة 1958، بلغ التوتر داخل حزب الاستقلال مستوى لم يعد يسمح بالتماس التسويات، خاصة بعد ما اعتبره الجناح اليساري «تماهيًا زائدًا» للحزب مع مراكز القرار في القصر، وتراجعًا عن المطالب الاجتماعية التي دافع عنها خلال سنوات المقاومة. المهدى بن بركة، وعبد الرحيم بوعبيد، وعبد الله إبراهيم، رأوا أن الظرف التاريخي يقتضي بناء تنظيم سياسي جديد يُعيد تأطير الجماهير، ويُتيح صوغ مشروع مجتمعي تقدمي بعيدًا عن حسابات المحاصصة والتحالفات الضيقة. وداخل هذا المناخ، جاء الإعلان عن تأسيس «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية» (UNFP) في أوّل شتنبر 1958 كإحدى أهم المحطات التأسيسية لتعددية حزبية حديثة في المغرب الحديث (1).

كان الهدف الأساسي من تأسيس هذا التنظيم، هو خلق جبهة يسارية واسعة تتجاوز الإطار السياسي التقليدي، وتنفتح على النقابات والطلبة وشبيبة الأحياء الشعبية. وقد ظهر ذلك بوضوح في «الكتاب التأسيسي» للاتحاد، حيث صيغت وثيقة سياسية تُحمّل مسؤولية «الاستقلال الناقص» لما وصفته بـ«التحالف الموضوعي بين مصالح الإقطاع والرأسمال الكومبرادوري» (2). في هذا الإطار، تم الدفاع عن مفهوم «الاستقلال الثاني»، كمعركة من أجل تحرير الإرادة الوطنية من النفوذ الاقتصادي الفرنسي، وفرض إصلاح زراعي يُحدّ من سيطرة الأعيان على الأراضي المسترجعة.

من الناحية السياسية، جاء تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ردًا على مسارين متوازيين: من جهة، اتساع الهوة بين حكومة عبد الله إبراهيم التي تبنّت خطابًا إصلاحيًا جذريًا، وبين القصر الذي كان يميل إلى «التوازن الحذر»؛ ومن جهة ثانية، تزايد شعور قواعد حزب الاستقلال بأن القيادات التاريخية لم تعد تُعبّر عن طموحاتهم بعد الاستقلال. وقد تجلّى ذلك في الخلاف العلني الذي نشب بين المهدي بن بركة وقادة الحزب أثناء التحضير لمؤتمر 1959، إذ اعتبر بن بركة آنذاك أن «العمل الوطني لم يعد يحتمل تأجيلا إضافيا لإصلاحات هيكلية، وإلا سنعيد إنتاج منظومة الحماية بثوب وطني» (3).

انعكس هذا الجدل بوضوح في البرنامج السياسي للاتحاد الذي ركّز على أربع أولويات: «دمقرطة المؤسسات، إصلاح النظام التعليمي، تأميم القطاعات الاستراتيجية، والعدالة الاجتماعية». ولعلّ هذا البعد الاجتماعي هو ما جعل الاتحاد يحظى بسرعة بتعاطف واسع من داخل الاتحاد المغربي للشغل، حيث لعبت النقابات دورًا حاسمًا في توسيع قاعدته الشعبية، خاصة في مناطق الشاوية والدار البيضاء وسوس (4).

لكن الصراع مع القصر لم يتأخر طويلا. فبعد أقل من سنتين، ونتيجة لما اعتُبر «تجاوزاً لصلاحيات الحكومة» من طرف عبد الله إبراهيم في مجال السياسة الاقتصادية، جرى إعفاؤه في دجنبر 1960، وتعويضه بحكومة يقودها الملك محمد الخامس بشكل مباشر، إيذانًا ببداية مرحلة جديدة من الصراع بين القصر والاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وقد شكّل ذلك الإعفاء منعرجًا حاسمًا، لأنه كشف عن عمق التناقض بين المشروع الملكي الذي يُفضّل التدرّج والبناء التوافقي، والمشروع الحزبي الاشتراكي الذي يدفع نحو التغيير السريع (5).

خلال السنوات التالية، سيتعرض الاتحاد لسلسلة من الضربات الأمنية والاعتقالات، خاصة بعد أحداث 1963 واتهام قياداته بمحاولة قلب النظام، ما أدّى إلى فرار المهدي بن بركة إلى الخارج، قبل أن يُختطف في باريس سنة 1965. غير أن هذا المسار القمعي لم يُنهِ المشروع السياسي الذي حمله الاتحاد، بل دفعه إلى إعادة النظر في آليات العمل، فانتقل جزء منه نحو العمل السري، بينما واصل الجزء الآخر النضال داخل المؤسسات، لا سيما داخل البرلمان بعد انتخابات 1963 (6).

يمكن القول إن تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية لم يكن مجرد انقسام حزبي عابر، بل مثّل منعطفًا في تطور الحياة السياسية المغربية، إذ فتح الباب أمام «خطاب يساري نقدي»، أعاد طرح سؤال «من يمتلك السلطة؟ وكيف تُمارس؟». كما أنه ساهم في بلورة وعي سياسي جديد لدى فئات واسعة من الطبقات الشعبية، التي بدأت تنظر للحزب ليس كوسيلة تمثيل فقط، بل كأداة تغيير اجتماعي واقتصادي.

وحتى بعد انقسام الاتحاد سنة 1975 وتحوله إلى حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، إلا أن الإرث التأسيسي الذي صاغه بن بركة وبوعبيد ورفاقهما، ظل حاضرًا في الرهانات الكبرى للدولة المغربية: من إصلاح التعليم، إلى قضية الديمقراطية، إلى التوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. ولعل ما يبرهن على ذلك، هو أن العديد من المقترحات التي تبنّتها الدولة في التسعينيات، خاصة بعد التناوب التوافقي سنة 1998، جاءت مُستوحاة من أطروحات سياسية سبق للاتحاد الوطني أن طرحها في نهاية الخمسينيات (7).

 

إنّ محطة 1958 تُظهر بوضوح أن التاريخ السياسي للمغرب لا يُبنى فقط من خلال المواجهة مع «الآخر الاستعماري»، بل من خلال مواجهة مستمرة مع الذات، ومع نماذج السلطة التي تتغير بتغير الموازين الاجتماعية داخل المجتمع المغربي.

المراجع

1. محمد ضريف، ««الحركات السياسية في المغرب»«، الرباط، 2006.

2. الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ««الكتاب التأسيسي»«، 1958.

3. المهدي بن بركة، ««خطاب المؤتمر الاستثنائي لحزب الاستقلال»«، 1958.

4. عبد الرحيم بوعبيد، ««مذكرات»«، الدار البيضاء، 1999.

5. عبد الله إبراهيم، ««نحو استقلال ثانٍ»«، منشورات الزمن، 1975.

6. عبد اللطيف الشنتوف، ««الصراع السياسي في المغرب بعد الاستقلال»«، المركز الثقافي العربي، 2002.

7. مصطفى الكثيري، ««من خطاب المقاومة إلى خطاب الدولة»«، الدار البيضاء، 2015.

روابط مباشرة للمراجع

1. تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (1959)

2. المؤرخ محمد ضريف وأعماله

  • سيرة أكاديمية مختصرة للمؤلف:
    • موقع “تكمّل” (التكامل للدراسات والأبحاث) يبيّن أن محمد ضريف حائز على دكتوراه في العلوم السياسية والقانون الدستوري من جامعة محمد الخامس، وله مؤلفات في التحول الديمقراطي والحكامة المؤسسية takamoul.org.
  • قائمة أعماله المنشورة:
    • موقع Goodreads ومدونة “كتباتي” يقدّمان قائمة بكتب محمد ضريف، مثل الأحزاب السياسية المغربية وتاريخ الفكر السياسي بالمغرب والإسلام السياسي في المغرب وغيرهم Goodreads+2كتوباتي kotobati+2.
  • مصدر أكاديمي لكتابه “الأحزاب السياسية المغربية:

3. التأريخ الحزبي والعلاقات مع السلطة

  • مقال في موقع “ماروك رياليتés” يتناول تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عام 1959 والانشقاق عن حزب الاستقلال، وخطوات تطوّره لاحقًا كتوباتي kotobati+12maroc-realites.com+12Megazine+12.
  • الموسوعة على موقع الجزيرة توضح الخلفية التاريخية للنشأة، انشقاق 1959، التحوّل إلى الاتحاد الاشتراكي عام 1975، والمشاركة السياسية لاحقًا الجزيرة نت.
  • مقال “في غمار السياسة (كتابات محمد عابد الجابري) يذكر تفاصيل المؤتمر التأسيسي يوم 6 شتنبر 1959 وما ورد فيه من خطاب وميثاق التأسيس Megazine+1.

0 التعليقات: