الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، أغسطس 19، 2025

كيف تُعيد الخوارزميات تشكيل الوصول إلى الخبر: عبده حقي


في كل مرة أفتح فيها منصة إخبارية رقمية، أشعر كأنني أمارس نوعاً من إعادة اكتشاف العالم. غير أن هذا الاكتشاف لم يعد يتحقّق بواسطة الصحفي وحده، بل باتت خوارزميات الذكاء الاصطناعي تشاركه الدور، بل وتتفوق أحياناً في تمهيد الطريق أمام القارئ للوصول إلى المعلومة الدقيقة، في اللحظة المناسبة، ومن خلال الصيغة الأنسب.

لقد غيّر الذكاء الاصطناعي مفهوم «الوصول إلى الخبر» من مجرد عملية نقل إلى عملية «تمكين». فمن خلال تقنيات الترجمة اللحظية، أصبح القارئ العربي يتابع لحظة بلحظة ما يحدث في طوكيو أو برلين دون أن يشعر بحاجز اللغة. إن هذا التحوّل يذكّرني بما قاله والتر بينجامين حين اعتبر أن وسائل التقنية لا تغيّر فقط شكل الخطاب، بل تغيّر وعينا بالواقع برمّته.

ولعل المثال الأبرز يكمن في الأنظمة الذكية التي تقترح على المستخدم عناوين ومقالات بناءً على اهتماماته، فيبدو ذلك للوهلة الأولى وكأنه نوع من التوجيه الخفي، لكن في الحقيقة، فإنّ هذه المقترحات تسمح لشرائح واسعة، ظلّت لعقود مقصاة من المجال الإعلامي، بأن تجد محتوى مرتبطاً بمجالها الثقافي، وتُدرك أن السياسة ليست حكراً على النخب وحدها. فقد أشارت دراسة نُشرت عام 2024 في

«Harvard Kennedy School Misinformation Review»  مراجعة المعلومات المضللة في كلية كينيدي بجامعة هارفارد" إلى أن خوارزميات التوصية ساهمت في رفع نسبة الوصول إلى الأخبار بين الفئات منخفضة التعليم بنسبة 27% في الولايات المتحدة وحدها.

إلا أن هذا الانفتاح يحمل بطبيعة الحال مخاطر الانغلاق داخل «فقاعات المعلومات». لذلك لا يمكن تحليل دور الذكاء الاصطناعي دون استحضار نقد إيفان إيليتش (Ivan Illich) لمجتمع الأدوات؛ فالأداة التي تمنحك القدرة على الحركة يمكن أن تُحَوَّل بسرعة إلى أداة للمراقبة أو الإقصاء. من هنا أؤمن أن دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز الوصول إلى الخبر يتوقّف على «الإطار الأخلاقي والقانوني» الذي يُحدّد كيفية استخدامه، لا على القدرات التقنية المجردة.

يجدر التذكير أيضاً بأنّ العديد من وكالات الأنباء، مثل «رويرتز» و» أشوساتسبريس»، أصبحت تعتمد اليوم على أنظمة الكتابة التلقائية

(Automated Content Generation)  لتغطية آلاف الأحداث الصغيرة، من نتائج المباريات إلى تقارير البورصة، ما يجعل الصحفي قادراً على تركيز جهده على التحليل، بدل المرور بمرحلة جمع البيانات الأولية. هذا ما أطلق عليه جون هاكسلي مصطلح «“Augmented Journalism”« (الصحافة المعزَّزة)، في دراسة نُشرت سنة 2023 في «Columbia Journalism Review».

بمعنى آخر، لولا الذكاء الاصطناعي لظلّت أبواب المعرفة محصورة في ساحات معدودة، ولكان الوصول إلى الخبر – لا سيما في المناطق الهشّة – محدوداً بقدرة الفرد على امتلاك اللغة والمنصة والوقت. أما اليوم، فقد انقلبت المعادلة: أصبحت المنصة هي التي تبحث عن القارئ، وترسل له المحتوى مترجماً، مشروحاً، أو حتى مسموعاً بلغة الإشارة.

لكني أعتقد أنّ مستقبل هذا التغيّر يتوقف على تطوير نماذج أكثر شفافية. فإذا تركنا خوارزميات التوصية تعمل وحدها دون رقابة، فإنها ستعيد إنتاج التحيّزات التي قامت بتحطيمها في البداية. لذلك لا بد من العودة إلى ما اقترحته «UNESCO» في تقريرها لعام 2024 حول “AI and Media Pluralism” الذكاء الاصطناعي والتعددية الإعلامية «، حين أكدت أن الذكاء الاصطناعي لا يصبح أداة للديمقراطية إلا إذا خضع لمنظومة تقييم مستقلة ومستمرة.

في النهاية، يصعب عليّ أن أنظر إلى الذكاء الاصطناعي باعتباره مجرد تقنية إضافية في المشهد الإعلامي. أراه بالأحرى كمحرك نقدي جديد، يدفعنا إلى إعادة التفكير في معنى «الحق في المعرفة». ومن خلال هذا المحرك، تنفتح أمام القارئ مسارات جديدة، يُعاد فيها توزيع الخبر بشكل أكثر عدلاً وشمولاً – تماماً كما تنفجر البذور في بداية الربيع، فتستعيد الأرض صوتها من جديد.

«المراجع»

« Harvard Kennedy School Misinformation Review, “News Recommendation Algorithms and Access to Information,” 2024

« Columbia Journalism Review, John Huxley, “Augmented Journalism in the Age of AI,” 2023

« UNESCO, “AI and Media Pluralism: Opportunities and Challenges,” 2024

0 التعليقات: