شكّل اعتماد أول دستور للمملكة المغربية في ديسمبر 1962 محطةً فارقة في مسار بناء الدولة بعد الاستقلال. فقد جاءت هذه اللحظة في سياق سياسي محتدم، حيث سعى الملك الحسن الثاني، الذي تولى الحكم سنة 1961، إلى ترسيخ شرعية الملكية الدستورية، في حين رأت المعارضة، وعلى رأسها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، أن الوثيقة الدستورية قد تمت صياغتها بطريقة تُكرّس هيمنة القصر وتحدّ من آفاق الديمقراطية التمثيلية. هذا التوتر جعل الاستفتاء الشعبي على الدستور حدثاً يتجاوز طابعه القانوني ليصبح صراعاً حول طبيعة النظام السياسي الوليد.
السياق التاريخي والسياسي
بعد حصول المغرب على
الاستقلال سنة 1956، اتسمت المرحلة الأولى بصراع خفي بين ثلاثة أطراف: المؤسسة الملكية
الساعية لإعادة تركيز السلطة، الحركة الوطنية التي قادت الكفاح ضد الاستعمار وتحولت
إلى قوى سياسية منظمة، ثم المؤسسة العسكرية والإدارية التي ورثت بعض الهياكل عن النظام
الاستعماري.
وفاة الملك محمد الخامس
في مارس 1961 فتحت المجال أمام ابنه ولي العهد الحسن الثاني، الذي كان واعياً بحساسية
المرحلة وبحاجة النظام إلى غطاء دستوري يمنحه المشروعية الحديثة.
من هنا انطلقت فكرة
إعداد دستور يؤطر العلاقة بين السلط، ويقدّم للمغرب صورة دولة عصرية أمام الخارج. غير
أن جوهر المشروع كان يتعلّق بتثبيت مركزية الملك في النظام السياسي، بحيث يحتفظ بالسلطات
التنفيذية والتشريعية والقضائية الأساسية، في مقابل منح البرلمان سلطات محدودة.
مواقف القوى السياسية
كان المشهد الحزبي
منقسماً وقتئذ بين تيارات ثلاثة:
الأحزاب الموالية للقصر
مثل جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية (FDIC) التي أسسها أحمد رضا اكديرة، وقد رأت في الدستور خطوة نحو الاستقرار وإعطاء
صورة مؤسساتية للدولة.
الاتحاد الوطني للقوات
الشعبية، الذي انشق سنة 1959 عن حزب الاستقلال بزعامة المهدي بن بركة وعبد الله إبراهيم،
وقد اعتبر أن مشروع الدستور يفتقر إلى الضمانات الديمقراطية، ويركز السلطات في يد الملك.
حزب الاستقلال، الذي
تذبذبت مواقفه بين المشاركة والاعتراض، حيث كان يسعى لتأكيد مكانته التاريخية كقائد
للحركة الوطنية، دون أن يخسر موقعه في اللعبة السياسية.
هذا التباين جعل الاستفتاء
على الدستور مناسبة لصدام سياسي مفتوح، إذ دعت المعارضة إلى مقاطعته، واعتبرت نتائجه
غير معبرة عن الإرادة الشعبية.
مضمون الدستور
دستور 1962 نص على
أن المغرب "ملكية دستورية ديمقراطية اجتماعية"، لكن جوهر فصوله عزّز سلطات
الملك باعتباره "أمير المؤمنين" ورئيس الدولة والقائد الأعلى للقوات المسلحة.
من أبرز ملامحه:
منح الملك صلاحية تعيين
رئيس الحكومة والوزراء وحل البرلمان.
ازدواجية البرلمان
بين مجلس النواب المنتخب ومجلس المستشارين المعين جزئياً.
تكريس الفصل 19 الذي
اعتبره كثير من الباحثين حجر الزاوية في تعزيز سلطات الملك، إذ منح له سلطة "التحكيم
الأسمى" بين المؤسسات وضمان احترام الدستور.
هذه المضامين جعلت
الدستور في نظر المعارضة إطاراً شكلياً للتعددية، دون أن يمس جوهر الحكم الفردي.
نتائج الاستفتاء وتداعياته
تم تنظيم الاستفتاء
في 7 ديسمبر 1962، وأعلنت النتائج الرسمية أن نسبة المشاركة تجاوزت 80%، وأن أكثر من
97% من المصوتين وافقوا على الدستور. غير أن المعارضة شككت في نزاهة العملية، واعتبرت
الأرقام "مفبركة" لتعزيز صورة التوافق.
على المستوى السياسي،
أدى اعتماد الدستور إلى:
إضفاء طابع قانوني
على النظام الملكي ومنحه شرعية جديدة.
تعميق الانقسام بين
القصر والمعارضة، وفتح الطريق نحو مرحلة من المواجهة السياسية بلغت ذروتها في أحداث
1963 وما تلاها من محاكمات سياسية واعتقالات.
تكريس الثنائية القطبية:
قصر ملكي مسيطر من جهة، ومعارضة يسارية وطنية تسعى لتوسيع الهامش الديمقراطي من جهة
أخرى.
البعد الإقليمي والدولي
لا يمكن فصل هذا الدستور
عن سياقه الدولي. فقد كان المغرب بحاجة لتثبيت صورته كدولة مؤسسات في زمن الحرب الباردة،
حيث تتنافس القوى الكبرى على كسب حلفاء. كما أن التجربة الدستورية المغربية جاءت في
وقت كانت فيه بلدان عربية أخرى تعرف أنظمة جمهورية ذات نزعة راديكالية، ما جعل القصر
يسعى لإبراز خصوصية "الملكية الدستورية" كخيار للاستقرار.
قراءة تحليلية
يمثل دستور 1962 لحظة
تأسيسية لمعضلة السياسة المغربية: البحث عن التوفيق بين الملكية التنفيذية والشرعية
الديمقراطية. فبينما رأى القصر في النص ضمانة لاستمرارية الدولة ووحدة البلاد، اعتبرته
المعارضة إطاراً يحدّ من إمكانية الانتقال إلى ملكية برلمانية حقيقية. هذه الثنائية
ستظل تطبع المسار السياسي المغربي لعقود، حيث عادت إلى السطح مع كل إصلاح دستوري لاحق
(
(1970،
1972، 1996، 2011).
إن أهم ما يميز دستور
1962 أنه فتح باب التجربة الدستورية المغربية، لكنه لم ينجح في حل التوتر بين القصر
والقوى الديمقراطية. ومن ثمّ، يمكن اعتباره خطوة تأسيسية من حيث الشكل، لكنها حملت
في طياتها بذور الأزمة السياسية التي ستستمر طويلاً.
المراجع والمصادر
عبد الله العروي، مجمل
تاريخ المغرب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1996.
جون واتربوري، أمير
المؤمنين: الملكية والنخبة السياسية المغربية، ترجمة عبد الغني أبو العزم، دار الأمان،
الرباط، 1990.
محمد ضريف، الأحزاب
السياسية المغربية: 1960-1990، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1992.
عبد الأحد السبتي،
المغرب في القرن العشرين، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 2002.
محمد ضريف، مقالات
متفرقة حول الحياة السياسية المغربية، منشورة في مجلات أكاديمية.
روابط لبعض المراجع
في المكتبات الرقمية
مجمل تاريخ المغرب
– عبد الله العروي (المركز الثقافي العربي)
أمير المؤمنين – جون
واتربوري (ترجمة)
المغرب في القرن العشرين
– عبد الأحد السبتي
يتبع
0 التعليقات:
إرسال تعليق