منعطفٌ حاسم في تشكّل الحقل السياسي والطلابي اليساري بالمغرب
شكّل ربيع 1965 لحظةَ تصدّعٍ بين المجتمع والدولة. فقرارٌ إداريٌّ تقنيٌّ ظاهرياً—تحديدُ سنّ ولوج السلك الثانوي الأعلى ومن ثَمّ تضييق طريق الباكالوريا—أطلق سلسلة احتجاجات طلابية سرعان ما اكتسبت طابعاً اجتماعياً وسياسياً واسعاً في الدار البيضاء، قبل
أن تتدحرج نحو قطيعة دستورية بإعلان «حالة الاستثناء» في 7 يونيو 1965. هكذا انتقل البلد من تجربة دستورية فتية (دستور 1962) إلى تركيز السلطة بيد الملك، وتبدّل ميزان الفعل السياسي: يسارٌ يتجه إلى السرية، واتحادٌ طلابيّ (الاتحاد الوطني لطلبة المغرب—أونيم) يشتدُّ تنظيمُه ومواجهاته.جذور الانفجار: المدرسة
بوّابة السياسة
لم يكن التوتر منفصلاً
عن مأزق التحديث السريع للمدينة والتعليم وسوق العمل. لكن الشرارة جاءت من منشورٍ لوزارة
التربية في فبراير–مارس 1965 يقضي باستبعاد التلاميذ من تجاوزوا سناً معينة من متابعة
الدراسة في السلك الثانوي الأعلى—ما يعنى عملياً إقصاء نسبة كبيرة من التلاميذ من أفق
الباكالوريا والجامعة. هنا تحوّل مطلبٌ تربوي إلى قضية عدالة اجتماعية وفرصة للحراك
لدى شرائح من أبناء الأحياء الهامشية في الدار البيضاء.
يومان يهزان العاصمة
الاقتصادية
في 22 و23 مارس ، خرج
آلاف التلاميذ من ثانوية محمد الخامس في مسيراتٍ سرعان ما التحمت بها فئات من العاطلين
والعمال وسكان “الأكواخ”، فارتفع منسوب العنف في الشارع، وردّت السلطات بنشر الجيش
والدبابات. وقد تباينت تقديرات الضحايا بين الأرقام الرسمية المحدودة وتقديراتٍ معارضة
عالية؛ لكن الثابت أنّ القمع كان قاسياً، وقد نُسب إلى الجنرال محمد أوفقير إطلاق النار
من مروحية خلال عمليات التفريق، وفق شهادات ومراجع بحثية. وفي 30 مارس، توجّه الملك
بخطاب شديد اللهجة حمّل فيه «المثقفين» و«المؤطرين» مسؤولية ما وقع—جملةٌ ستغدو رمزاً
لقراءةٍ تُجرّم الوساطة الاجتماعية والسياسية.
من الشارع إلى النصّ
الدستوري: إعلان «حالة الاستثناء»
بدل احتواءٍ سياسيٍّ
طويل النفس، جاء التحوّل الدستوري سريعاً: في 7 يونيو 1965 فَعَّل الملك الحسن الثاني
المادة 35 من دستور 1962، فجمّد عمل البرلمان وتسلّم السلطتين التنفيذية والتشريعية،
وحكم بمراسيم (“ظهائر”) حتى 1970 حين أُعلنت تعديلات دستورية وانتخابات جديدة. هذه
الخطوة أنهت عملياً مرحلة الانفراج القصيرة بعد الاستقلال، ورسّخت مركزية المؤسسة الملكية
باعتبارها قطب النظام.
وقعُ اللحظة على الحركة
اليسارية والفضاء الطلابي
أنتجت صدمةُ مارس–يونيو
1965 مسارين متوازيين:
سرية اليسار: انكفأت
قوى من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وأوساطٍ شبابية إلى العمل السري والتنظيم الخليوي،
ثم ظهرت أطر ماركسية-لينينية لاحقاً مثل «23 مارس» (1970) و«إلى الأمام» (1970)، متّخِذة
من مدرسة 1965 درساً في حدود الإصلاح من داخل المؤسسات. وقد وثّقت دراساتٌ أكاديمية
هذا التحول والصلات الوثيقة بالحراك الطلابي.
تَشَدُّدُ الفعل الطلّابي:
صار «أونيم» رافعة سياسية مركزية، توسّعت قاعدته وتصلّبت مواقفه في الجامعة والثانويات،
قبل أن تدفعه المواجهة مع الدولة إلى حقبة حظرٍ قانوني في 24 يناير1973 ثم إعادة الترخيص
في 1978. هذا المسار—الذي بدأ عملياً في 1965—جعل المنظمة الطلابية ذاكرةً للصراع الاجتماعي-السياسي
ومختبراً لقيادات يسارية لاحقة.
البعد الإقليمي والدولي:
زمن الحرب الباردة و«سنوات الرصاص»
لم تكن لحظة 1965 مغربيةً
خالصة. فبعد «حرب الرمال» (1963) وتزايد الاستقطاب الإقليمي، ومع برودة الحرب الباردة،
مال النظام إلى تشديد القبضة الأمنية تحوّطاً من “عدوى” الاضطرابات. في أكتوبر1965
زاد اختطافُ المهدي بن بركة في باريس المشهدَ توتراً داخلياً وخارجياً، وعمّق قناعة
السلطة بأن الصراع مفتوح. وقد أصبح عقد الستينيات والسبعينيات يُعرَف لاحقاً بـ«سنوات
الرصاص»، عنواناً لفترة اتّسع فيها الاعتقال السياسي والتعذيب والاختفاء القسري قبل
مسارات الانفراج اللاحقة.
سياسات القانون وإعادة
هندسة الحقل العمومي
لم تقتصر الاستجابة
على الأمن؛ فقد رافقتها سياسةُ «هندسة مؤسسية» طالت بنية القضاء والتعليم والإدارة،
وسعت إلى توحيد مجالات السلطة القانونية والرمزية تحت سقف واحد. هكذا تغذّت شرعية
«حالة الاستثناء» من قراءةٍ ترى الاستقرار أولويةً دستوريةً قصوى، ولو على حساب التداول
والفصل بين السلطات، وهو ما تعكسه القراءة المقارنة لنصوص الاستثناء في دساتير المغرب
لاحقاً.
الخلاصة: لماذا
1965 محطة تأسيسية؟
لأنها لحظة تلاقى فيها:
كسرٌ اجتماعي فرضته
سياسات الانتقاء التعليمي في مدينة تتضخّم عمراناً وفقراً؛
كسرٌ دستوري أعاد تعريف
العلاقة بين الملكية والتمثيلية؛
كسرٌ تنظيمي حوّل اليسار
إلى السرية، ومنح «أونيم» دوراً قيادياً في صوغ سردية المعارضة.
من هنا، لا يُفهَم
صعود التنظيمات اليسارية السرّية، ولا مصائر الحركة الطلابية، ولا صورة الدولة في
«سنوات الرصاص»، من دون العودة إلى تلك الأيام من مارس–يونيو 1965.
المراجع والمصادر الموثوقة
FRUS – مكتب المؤرّخ الأميركي: مذكرة سياسية تؤرخ لإعلان
إنهاء «حالة الاستثناء» وتؤكد بدايتها في 7 يونيو 1965.
WIPO (نص المادة 35 من دستور
1962 كما تُداول): الإطار الدستوري لإعلان حالة الاستثناء.
ConstitutionNet:
لمحة تاريخية عن الدساتير المغربية وتأثير «حالة
الاستثناء»
(1965).
ConstitutionNet
OpenEdition
(PUL): دراسة
أكاديمية حول سياسات التعليم تؤرّخ للمنشور الذي فجّر احتجاجات 1965.
OpenEdition
Books
Jeune Afrique (عمر بروكسي)، 21 مارس
2005: تحقيق صحفي تفسيري حول 23 مارس 1965.
Jeune Afrique
Encyclopedia.com
– مدخل UNEM: تطور الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وحظره ثم
إعادة تأسيسه.
encyclopedia.com
Le Monde (26 يناير 1973): خبر حلّ
«أونيم» بقرار حكومي.
Le Monde.fr
Britannica –
“Mehdi Ben Barka”: سياق اختطاف
بن بركة وأثره السياسي.
Encyclopedia
Britannica
Carep-Paris / شهادات بحثية: حول تشكّل «إلى الأمام» و«23 مارس»
وصلتهما بالنشاط الطلابي.
CAREP Paris
روابط رقمية (مكتبات
وأرشيفات للوصول الحر)
FRUS – Office of
the Historian (وثائق
1969–1976):
https://history.state.gov/historicaldocuments/frus1969-76ve05p2/d106
ConstitutionNet
– Morocco (تاريخ
دستوري):
https://constitutionnet.org/country/morocco
WIPO – نص المادة 35 (صيغة مرجعية):
https://www.wipo.int/wipolex/en/text/191428
OpenEdition
(PUL) – Enseignement et emploi public au Maroc:
https://books.openedition.org/pul/32542
Susan Gilson
Miller, A History of Modern Morocco (Archive.org):
https://archive.org/details/historyofmodernm0000mill
Google Books –
Marguerite Rollinde, Le Mouvement marocain des droits de l’Homme:
https://books.google.com/books?id=Qrst5uqJTKEC
أرشيف/تعريف «سُوفل» Souffles–Anfas (مواد حول الثقافة والسياسة 1966–1971):
https://revolutionarypapers.org/journal/souffles-anfas/
تنبيه منهجي: أرقام
الضحايا في أحداث الدار البيضاء 1965 متباينة بشدة بين المصادر الرسمية وشهادات المعارضة
والصحافة الأجنبية؛ لذا تُذكر هنا بوصفها تقديرات متضاربة لا «رقماً نهائياً».
يتبع
0 التعليقات:
إرسال تعليق