الرواية هي عالم الإنسان الأدبي ومرآته، وخطاب حكاياته وتجاربه، في التعبير عن نفسه وفضائه وآماله وأحلامه. وهي أيضاً تعبير عن تاريخه وحاضره ومستقبله، وما زال النص الروائي ينمو ويتطوّر في خطابه، وأشكاله وفنّيات سرده، وفي تفاعله مع أجناس التعبير المختلفة، وفي ثراء تعدّد أصواته وحواريّة دلالاته، وانفتاح نصوصه على القراءات والتأويلات، ما أكسبه ذلك الثراء المعرفي والجمالي. وما زالت الرواية ترتقي بعناصر بنيتها ومكوّنات خطاباتها، وتداخل نصوصها مع مجالات معرفيّة وفنيّة متنوّعة، أغنت جماليات عناصرها ومكوّناتها، وفتحت أبوابها للتوظيف السّرديّ فانفتحت على آفاقها الدلاليّة، ومستويات معانيها المتعدّدة. وبما أنّ المكان عنصر من العناصر السرديّة، فقد اكتسى من ذلك التطوّر في الدّرس النقدي المعاصر وفي الخطاب السردي، فاكتسب ذلك الموقع النقدي الجديد.فالأمكنة في النصوص السرديّة ليست مجرّد كيانات جغرافيّة محدودة، موصوفة ضمن الخطاب السردي بدلالاتها المعيّنة المباشرة، ولكنّها مفتوحة على إمكانات المعاني في القراءة والتأويل، ومرتبطة بمنظورها الدلالي، فهي أعمق من مدلولها اللّغوي المباشر، إذ تنتقل من عالمها المادّي المحدود والمعيّن، في وجودها وتحيّزها وشكل مظاهرها وتفاصيلها. وكأنّ الأمكنة، والحال كذلك، مجرّد إطار للأحداث والشخصيات، إلى دلالات أعمق في قراءاتها وتأويلاتها عند تلقي الخطاب السردي الذي يتضمّنها، بوصفها علامات تُحيلنا إلى الدلالات المختلفة والمعاني المتعدّدة، المطمورة في متن الخطاب ولغة السرد، التي توظف الأمكنة وتنقلها من حالتها الواقعيّة المعيّنة إلى صورتها الفنيّة والجماليّة التي تجعلها جزءًا من البنية السرديّة، التي تكشف القراءة وتلقي النص آفاقها ومستوياتها الجديدة، وتمنحها مجالًا واسعًا في استنطاقها، لأنّ القراءة تكون تجربة للمعنى، ذلك أنّ شعريّة الأمكنة وجمالياتها، المسكونة في لغة الرواية، تنكشف بواسطة القراءة على احتمالات انزياحها الدلاليّ، وهذا كلّه يجعل الأمكنة تنتقل ضمن النص السردي من حالة الجغرافيا والتاريخ والطبيعة الماديّة المجرّدة والأوصاف المباشرة في تعيينها إلى حالة من توليد المعاني من خلال استدرارها بالقراءة المنتجة والفاعلة، وفتح النص على معانيه الجديدة والعميقة وكشف دلالاته، وهذا ما يربط الأمكنة بمضمونها الجمالي داخل النص الروائي.
والأمكنة ضمن الخطاب السردي هي كيانات دلاليّة تسعى القراءة إلى تعرية معانيها، وأوجه توظيفها وجماليات سردها، ومضمون منظورها، والعمل على استنطاق محتواها في سياق النص، وبيان مدلول علاقاتها، فهي ليست مجرّد إطار للأحداث التي تجري فيها، أو للشخصيّات التي تتحرّك داخلها، ولكن هي ذاكرة الأشخاص، وكيان وجودهم، فهي موطن حياتهم تحمل آثار ثقافتهم الاجتماعيّة والحضاريّة، فتتحوّل إلى جزء من كيانهم النفسي والفلسفي والعقائدي، وإلى جزء من تاريخهم الذي يصنع هويّتهم، ولذلك فإنّ وظيفة الأمكنة التي تزخر بمثل هذه الخصائص الفنيّة داخل النص السردي، هي أنموذجًا لأهميّة المكان الدلاليّة داخل الخطاب السردي، لأنّها تحتوي تلك الجماليات الخاصّة بما تُحيل له من معان جديدة كونها علامات مكانيّة .
والأمكنة تتميّز بدلالة ووظيفة جمالية عميقة في النصوص السرديّة، بسبب مرجعيتها الرمزية، وارتباطها بالأحداث والشخصيات المؤثرة. والأمكنة في النّصّ السّرديّ ليست محصورة في وصف المباني والعمران أو محيط البيئة والآفاق، أو في مجرّد ارتباطها بالحدث أو الشخصيّة، بل يتعدّى ذلك إلى وظيفتها السّرديّة التي تمنحها هويّتها الدّلالية ومسارها وحضورها في بناء المعاني، وتمنحها مضامينها الجماليّة، بوصفها مجموعة من العلامات والسيمات التي تُحيل إلى آفاق جديدة ضمن عمليّة سرديّة متكاملة، تهدف إلى إعادة صياغة الحدث، ومنه إعادة صياغة المكان وتوظيفه داخل البنية الجمالية للرواية، وفق إستراتيجيّة سرديّة تُساهم فيها الكتابة مثلما تُساهم فيها القراءة.
وآفاق الدراسة التي تضمنها الكتاب تستدرجنا إلى إشكالية حول آليات توظيف سردية تلك الأمكنة في النص، للوصول إلى تشييد جماليات سردية لها، وفق مجموعة من الفرضيات والمنطلقات من أهمّها:
– ما هي وظيفة المكان وسلطته النصّيّة في الرواية؟
– ما هي الآليات الفنيّة في سرد الأمكنة في النص الروائي؟
– كيف نقرأ المكان ضمن البناء السردي؟
مثل هذه الأسئلة تدفعنا إلى البحث عن الوظائف الجمالية الممكنة لسرد المكان في الرواية، وآليات بناء الأمكنة داخلها، وفهم ذلك عند قراءة وتلقي ذلك التوظيف السردي للمكان. صدر كتاب «الرواية والمكان، سرد الأمكنة وجماليات الفضاء» لمؤلِّفه الناقد والروائي الجزائري محمد حسن مرين، عن دار سامح للنشر في السويد في 108 صفحات من القطع الكبير.
0 التعليقات:
إرسال تعليق