الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، أغسطس 15، 2025

لماذا يواصل النظام الجزائري سياسة الهروب إلى الأمام؟ عبده حقي


 يبدو أن السلطة في الجزائر تتقن لعبة إضاعة الفرص أكثر مما تتقن فن اقتناصها. فها نحن أمام احتمال أن يجلس الرئيس عبد المجيد تبون أمام كاميرات القناة الإخبارية الفرنسية الأكثر مشاهدة، في حوار قد يشكل نقطة انعطاف في أزمة دبلوماسية خانقة مع باريس، استمرت أكثر من عام، وأدت إلى فراغ غير مسبوق في التمثيل الدبلوماسي بين البلدين. ومع ذلك، ما زال التردد سيد الموقف، والقرار مؤجلاً، وكأن الزمن يعمل لصالح الجزائر، بينما الحقيقة أن عقارب الساعة تدق في غير مصلحتها.

منذ يوليو2024، والعلاقات الجزائرية-الفرنسية تتدهور بوتيرة لافتة، حتى وصلت إلى حالة شبه القطيعة. سفراء غائبون، قنوات رسمية مغلقة، والاعتماد فقط على وسطاء غير رسميين: لوبيات، رجال أعمال، ودبلوماسيين سابقين. والنتيجة: انكماش الحضور الجزائري في الساحة الفرنسية، مقابل تمدد الأصوات المعادية التي وجدت في الأزمة وقوداً لمشاريعها السياسية.

اليوم، تأتي فرصة المقابلة مع إحدى القنوات كمنصة نادرة لتبون كي يخاطب الرأي العام الفرنسي مباشرة، ويفكك روايات خصومه، ويعيد رسم صورة الجزائر أمام ملايين المشاهدين. لكن النظام، كعادته، غارق في حسابات ضيقة، بين جناح يرى في الحوار "مخاطرة غير مضمونة"، وآخر يراه "نافذة إنقاذ". هذه الانقسامات الداخلية، إذا استمرت، ستجعل من القرار النهائي فعلاً متأخراً وغير مؤثر، وربما بلا قيمة.

الأزمة مع فرنسا لم تعد محصورة في ملف الصحراء المغربية كما كانت في بدايتها، بل تضخمت لتشمل قضايا الهجرة، والتعاون الأمني، والتحقيقات القضائية حول معارضين جزائريين في فرنسا. ومع كل ملف جديد، يتضاعف الثمن السياسي الذي ستدفعه الجزائر كلما تأخر حل النزاع. فخصومها في باريس يزدادون قوة، من اليمين المتطرف إلى لوبيات المصالح الاقتصادية، بينما تتراجع قدرة الإليزيه نفسه، ممثلاً في إيمانويل ماكرون، على فرض أجندة توافقية مع الجزائر كما كان في السابق.

المفارقة أن النظام الجزائري يتعامل مع فرنسا وكأنها خصم يمكن تجاهله إلى ما لا نهاية، متناسياً أن باريس تملك أوراق ضغط هائلة: جالية جزائرية بالملايين، علاقات اقتصادية متشابكة، وأسرار شخصية ومالية لكثير من النخب الجزائرية. وهذا مزيج يجعل من أي مواجهة طويلة الأمد خاسرة بالنسبة للجزائر قبل غيرها.

إن اللحظة الراهنة، في ظل انشغال العالم بأزمات أكبر مثل التصعيد بين إيران وإسرائيل، تمثل فرصة نادرة لتسوية الخلافات بكلفة سياسية أقل. أما إذا أضاع النظام هذه الفرصة، فإن اللوبيات المعادية للجزائر في فرنسا ستزداد قوة، وسيصبح أي تفاوض لاحق أشبه بمحاولة إطفاء حريق بعد أن يلتهم نصف الغابة.

في النهاية، السؤال ليس إن كانت مقابلة تبون مع القناة الفرنسية خطوة ذكية أم لا، بل إن كانت الجزائر مستعدة للخروج من دائرة الانفعال الدبلوماسي إلى براغماتية تحمي مصالحها قبل أن تصبح معزولة أكثر مما هي عليه الآن. أما استمرار سياسة "الهروب إلى الأمام"، فلن تقود إلا إلى طريق واحد: خسارة ورقة الحوار، وتحويل الأزمة مع باريس إلى جرح مفتوح ينزف لسنوات.


0 التعليقات: