الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، أغسطس 25، 2025

قراءة في كتاب بهارات أناند " فخ المحتوى" : ترجمة عبده حقي


تتسابق المؤسسات والشركات لإنتاج محتوى جديد ومتنوع أملاً في جذب الانتباه وتحقيق التميز. غير أن بهارات أناند، أستاذ الاستراتيجية بكلية هارفارد للأعمال، يلفت الانتباه في كتابه «فخ المحتوى» (The Content Trap) إلى خطأ شائع يقع فيه كثيرون: التركيز المفرط على المحتوى نفسه بدل التفكير في الروابط التي تمنحه الحياة وتضاعف قيمته. فالكتاب، الصادر سنة 2016، لا يقدّم مجرد تأملات نظرية، بل يرسم خريطة عملية لفهم ديناميات النجاح الرقمي، ويقترح الانتقال من منطق المنافسة على المحتوى إلى منطق بناء الترابطات.

الفكرة المركزية التي يدافع عنها أناند واضحة: القيمة الحقيقية لا تنشأ من جودة المحتوى وحده، بل من الشبكات التي تربط المستخدمين، ومن العلاقات التي تجمع المنتجات، ومن الانسجام بين وظائف المنظمة. إنه ما يسميه «ثلاثي الروابط» أو

Connections Triad، الذي يشكل بديلاً حيوياً عن الهوس التقليدي بإنتاج المزيد من المقالات والفيديوهات والبرامج. فالمؤسسة الناجحة ليست تلك التي تملك أفضل محتوى بالضرورة، بل التي تعرف كيف تجعل منتجاتها وخدماتها مترابطة، وكيف توظف الروابط بين جمهورها، وكيف تحافظ على اتساق استراتيجياتها الداخلية.

يوضح أناند أن الروابط بين المستخدمين تُعتبر المحرك الأساسي لما يعرف بـ«تأثير الشبكة». فكلما ازداد عدد المشاركين في منصة ما، ازدادت قيمتها. منصات التواصل الاجتماعي أو تطبيقات المشاركة ليست قوية فقط بما تنشره، بل بما تتيحه من تفاعلات بين ملايين الأفراد. ومن هنا يفهم القارئ أن الاهتمام بالمحتوى بمعزل عن هذه الشبكات قد يكون مضيعة للوقت والجهد.

أما الروابط بين المنتجات، فهي الوجه الثاني للفكرة. يعرض أناند أمثلة شهيرة مثل العلاقة بين جهاز iPod وبرنامج iTunes، حيث لم يكن نجاح أبل رهين جهاز موسيقي متطور بقدر ما كان نتاج منظومة متكاملة تربط الجهاز بالمكتبة الرقمية وبالتجربة الكاملة للمستخدم. كذلك الحال مع صناعة الموسيقى، التي تراجعت حين تمسكت بالأقراص المدمجة ولم تستغل التكامل بين العروض المباشرة، وخدمات البث، وتجارب المستمعين الحية. إن الاعتماد على المحتوى وحده كان بمثابة السقوط في الفخ.

الشق الثالث يتعلق بالروابط الوظيفية داخل المؤسسة نفسها. فاختيارات التسويق، والتسعير، والابتكار التكنولوجي ليست قرارات متفرقة، بل حلقات مترابطة يجب أن تتكامل لتعزز بعضها البعض. النجاح هنا لا يأتي من قرار واحد بارع، بل من تناغم القرارات جميعها. وهو ما يجعل الاستراتيجية أكثر صلابة ويصعب على المنافسين تقليدها.

يقدّم الكتاب مجموعة واسعة من الدراسات التطبيقية التي تبرهن على هذه الأطروحة. من ذلك تجربة صحيفة نيويورك تايمز التي لم تكتف بإنتاج محتوى صحفي متميز، بل طورت منظومة رقمية متكاملة لبناء علاقة مستمرة مع القارئ عبر الاشتراكات والتفاعل والتوصيات الشخصية. كذلك نجحت مؤسسة Schibsted الإسكندنافية في تحويل نفسها من ناشر تقليدي إلى قوة رقمية من خلال الاستفادة من الروابط بين المستخدمين والإعلانات والمنتجات المختلفة. كما يستشهد المؤلف بتجربة الشركات الصينية مثل  Tencent، التي بنت إمبراطوريتها الرقمية ليس على مجرد محتوى، بل على شبكة مترابطة من الخدمات والاتصالات والتطبيقات.

إسهام الكتاب يتجلى في إعادة تشكيل التفكير الاستراتيجي لرواد الأعمال والإعلاميين وصنّاع القرار. فهو يحررهم من أسر «الفخ» الذي يجعلهم يظنون أن الحل يكمن في إنتاج المزيد من المحتوى أو تحسين جودته فقط. بدلاً من ذلك، يقترح التفكير في الترابط باعتباره المصدر الحقيقي للقيمة في العصر الرقمي. وهو ما يجعل الكتاب قريبًا من أدبيات الاقتصاد الشبكي، لكنه يقدمها بأسلوب قصصي مبسط مدعوم بأمثلة واقعية.

ومع ذلك، لا يخلو الكتاب من بعض الملاحظات النقدية. فقد أشار بعض القراء إلى أن أسلوب أناند يكرر كثيرًا صيغة «ليس هذا... بل ذاك»، مما قد يُشعر بالرتابة. كما أن بعض الأفكار، مثل أهمية تأثير الشبكات أو تكامل المنتجات، ليست جديدة بالكامل في الأدبيات الاقتصادية. غير أن قوة الكتاب تكمن في الجمع بين هذه الأفكار، وصياغتها ضمن إطار متماسك مدعوم بدراسات حالة تطبيقية، الأمر الذي يجعلها عملية وسهلة الاستخدام للقادة الرقميين.

خلاصة القول إن كتاب «فخ المحتوى» يقدم درسًا مهمًا لأي مؤسسة أو فرد يسعى للنجاح في العالم الرقمي: لا تنشغل بالمحتوى وحده، بل انظر إلى الروابط التي تمنحه معنى واستمرارية. النجاح في العصر الرقمي لا يقاس بعدد المقالات أو مقاطع الفيديو، وإنما بقدرة المؤسسة على نسج شبكة من العلاقات بين جمهورها، ومنتجاتها، وخياراتها الاستراتيجية. إنه دعوة إلى التفكير في العمق، وتجاوز السطحيات، وبناء استراتيجيات متكاملة تتسم بالمرونة والقدرة على التكيف.

0 التعليقات: