أكتب هذه السطور وأنا أستحضر المفارقة العجيبة التي يعيشها الأدب في زمن التحولات الرقمية. فمنذ أن بدأ الإنسان يحكي قصصه حول النار، ظلّت السرديات رهينة صوته، خياله، وجمهوره المحدود. واليوم، ونحن أمام ما يُسمّى بـ"الدراما التفاعلية"، أصبح النص قادراً على التكيف، التغيّر، بل والمراوغة وفق خيارات القارئ أو اللاعب، كما لو أن الحكاية لم تعد تملك مصيراً واحداً بل مصائر متعددة تتشظى كلما تدخلت اليد البشرية أو الخوارزمية. أشعر هنا أنني أمام كائن حيّ يتنفس عبر الشاشات، نصّ يراقب من يقرأه، ويعيد ترتيب نفسه على إيقاع التفاعل.
إن الحديث عن خوارزمية
الحكّاء يستدعي العودة إلى نظريات مبكرة في دراسة النصوص التفاعلية، مثل ما طرحه إسبن
آرثيت في كتابه Cybertext (1997)، حيث اعتبر أن القارئ لم يعد مجرد متلقٍّ بل
شريك في إنتاج المعنى. هذا التحوّل جعل من الكاتب طرفاً في شبكة أوسع، يتقاطع فيها
الإبداع البشري مع الحسابات الرقمية. ولعلّ ما يميّز الدراما التفاعلية هو قدرتها على
محاكاة منطق الحياة نفسها؛ فكما أن مساراتنا الواقعية محكومة بقرارات صغيرة قد تغيّر
مصائرنا، كذلك النص التفاعلي ينفتح على احتمالات شتى كلما اختار القارئ طريقاً دون
آخر.
وأنا أتأمل هذا الانزياح
من النص الورقي إلى النص الحي، أتذكّر ما كتبه ألكسندر غالواي في «The Interface Effect» (2012)، حيث شدّد على أن الوسيط
الرقمي ليس مجرّد قناة بل هو فاعل أساسي في تشكيل المعنى.
الدراما التفاعلية
إذن ليست مجرد محتوى محمول على شاشة، بل تجربة سردية تعيد صياغة علاقتنا بالزمن، بالمكان،
وبالآخر. أحياناً أشعر أنني حين أشارك في لعبة قصصية تفاعلية، أختبر نوعاً من
"القدر الافتراضي" الذي يذكرني بالفلسفات القديمة حول الجبر والاختيار.
لكن هل يمكن القول
إن الخوارزمية قد سلبت الكاتب سلطته القديمة؟ أم أن الكاتب نفسه هو من ابتكر هذه الخوارزمية
ليطيل عمر النص ويضاعف احتمالاته؟ إنني أرى أن خوارزمية الحكّاء ليست بديلاً عن الخيال
الإنساني، بل امتدادا له. فالكاتب في زمننا لا يكتفي بخلق الشخصيات والأحداث، بل يصمّم
أيضاً مسارات التفاعل، أشبه بمهندس معمار يضع خرائط لمدينة سردية يتيه فيها القارئ
بحرّية نسبية.
من هنا يتبدّى التشابه
مع ما كتبه ليف مانوفيتش في كتابه
«The
Language of New Media» (2001) حول قاعدة "قابليّة التعدّد" التي تتيح
للنص الرقمي أن يُعاد ترتيبه بلا نهاية.
ما يثير فضولي في هذا
المجال أيضاً هو البعد السياسي لهذه التحولات. فكما أن الخوارزميات في شبكات التواصل
الاجتماعي تتحكم في ما نقرأه ونشعر به، كذلك يمكن للدراما التفاعلية أن تصبح أداة لإعادة
صياغة الوعي الجمعي. فالنص التفاعلي قد يزرع في القارئ شعوراً بالمسؤولية تجاه قراراته،
وكأنه يدرّبه على ممارسة الاختيار، أو على العكس قد يغرقه في وهم الحرية بينما المسارات
الحقيقية محدّدة سلفاً. هنا أستحضر أطروحة شوشانا زوبوف في «Surveillance Capitalism» (2019) حول كيفية توظيف الخوارزميات في صناعة الطاعة
والامتثال.
إن الدراما التفاعلية
ليست مجرّد لعبة جمالية، بل هي مختبر لفهم علاقتنا الجديدة بالنص والسلطة والمعنى.
إنها تُعيد تعريف "المؤلف" و"القارئ" في آن معاً، وتدفعنا إلى
التساؤل: هل نحن من نكتب النصوص، أم أن النصوص بدأت تكتبنا؟ قد يكون هذا السؤال صدى
لما وصفه بودريار ذات يوم بـ"انمحاء الواقع" أمام هيمنة المحاكاة
(«Simulacres
et Simulation», 1981). فالخوارزمية ليست مجرد وسيط محايد، بل هي سلطة جديدة،
تحيك وراء الكواليس شبكة من الاحتمالات التي تشبه إلى حد بعيد نسيج القدر.
وفي النهاية، أشعر
أنني كلما غصت أكثر في هذا العالم التفاعلي، اكتشفت أن الكتابة لم تعد مجرد فعل فردي،
بل أصبحت فضاءً مشتركاً بين الإنسان والآلة. وكما أن الحكّاء القديم كان يحرك مخيلة
مستمعيه بصوته وإيماءاته، فإن الحكّاء الجديد — الخوارزمية — يحرّك النصوص وفق أنماط
مخفية، ليعيد إلينا تجربة الحكي في صورة معاصرة، حيث تختلط الحرية بالوهم، والخيال
بالمعادلة، والإنسان بالآلة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق