الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، أغسطس 05، 2025

تجليات النص البصري: الأدب والفن بين اليد والضوء: عبده حقي


في اللحظة التي يتحول فيها النص من حبر على ورق إلى نبضٍ على شاشة، أجدني مشدودًا إلى مفهوم "الإكفراسيس الرقمي" أو ما يمكن ترجمته اصطلاحًا بـ"الوصف الأدبي الرقمي للعمل الفني". هذا المفهوم، الذي كان في بداياته يختص بوصف اللوحات والمنحوتات في النصوص الأدبية، بات اليوم يُعاد إنتاجه ضمن فضاء تفاعلي، حيث تذوب الحدود بين الكلمة والصورة، بين الحكاية والمشهد، وبين التأمل العقلي والانطباع الحسي.

لقد قرأتُ كثيرًا عن العلاقة القديمة بين الأدب والفن البصري، تلك التي تُجسّدها القصيدة الشهيرة لهوميروس عن درع أخيل، أو وصف بليك للوحاته الشعرية، لكن الثورة الرقمية قلبت تلك المعادلة. لم نعد نتحدث فقط عن نص يصف لوحة، بل عن نص يولد داخل اللوحة، عن سردٍ يتنفس من بين البكسلات، عن قصيدةٍ تستمد إيقاعها من تدفق الضوء والظل عبر شاشة مضيئة.

في هذا السياق، يشير الباحث "ريشارد كوين" في دراسته حول

"Digital Ekphrasis and Virtual Imagination"  "التعبير الرقمي والخيال الافتراضي" " إلى أن الإكفراسيس الرقمي لا يقتصر على الوصف، بل يتعداه إلى إعادة خلق التجربة الجمالية نفسها. إن النص الرقمي لا يعكس العمل الفني فقط، بل يعيد تشكيله وفق بنية سردية جديدة، تُحوِّل القارئ إلى متفرج ومشارك، وتُحوِّل الصورة إلى حكاية لها زمنها ومكانها ودلالاتها المتغيرة.

ولعل أبرز مثال على هذا التحول هو ما نراه في بعض مشاريع الأدب الرقمي مثل "Reconstructing Mayakovsky" لـIllya Szilak، حيث تتداخل النصوص الشعرية مع الصور الثابتة والمتحركة، وتُغلف التجربة كلها بموسيقى إلكترونية تُعيد بناء الذاكرة الشعرية داخل بيئة سمعية وبصرية معقدة. هذه الأعمال لا تُقرأ فقط، بل تُعاش، كما لو أن كل جملة هي نافذة تطل على بعدٍ آخر من المعنى.

في تجربتي الخاصة كقارئ وكاتب، شعرت أن الإكفراسيس الرقمي هو أحد الأشكال الجديدة لـ"القراءة المتجسدة"، حيث لا يعود المعنى حبيس اللغة، بل يمتد ليشمل الانفعالات الحسية، والتجوال البصري، وحتى الإيقاع الزمني للتمرير على الشاشة. النص، هنا، ليس جسدًا صلبًا، بل كائن هلامي يتغير بتغير زاوية النظر إليه، أو كما قال بول فاليري: "الكلمات لها ظلال، وكل ظل له صورة، وكل صورة لها زمنٌ خاص بها."

إن هذا التحول دفعني للتساؤل: هل لا زالت الحدود بين الفنون قائمة؟ وهل ما زال في الإمكان الحديث عن "جنس أدبي" منفصل عن وسائط العرض؟ الواقع يشير إلى أننا نعيش في عصر "الأنواع الهجينة"، حيث تُدمج الرواية مع اللعبة، والقصيدة مع الفيديو، واللوحة مع النص البرمجي. وهنا يستعيد "الإكفراسيس" مكانته لا كنوع أدبي، بل كآلية معرفية، كوسيلة لفهم هذا التداخل، ولإعادة رسم خريطة العلاقات بين العين والعقل، بين التجربة والتمثيل.

ولا يمكن إغفال البعد الفلسفي لهذا الطرح، كما عالجه والتر بانجمان في "عمل الفن في عصر إعادة الإنتاج الآلي"، حيث أكد أن التقنية لا تُضعف التجربة الجمالية بل تُعيد توزيعها. في العالم الرقمي، يتم إعادة إنتاج النصوص البصرية بأشكال تفتح الباب أمام قراءات لا نهائية، وكل قراءة هي عمل فني جديد، وكل وصف هو خلق مضاد.

في النهاية، أستطيع القول إن الإكفراسيس الرقمي ليس فقط جسرًا بين الأدب والفن، بل هو أيضًا مختبر للخيال، ومجال لتوسيع المفاهيم النقدية التقليدية. إنه دعوة لإعادة النظر في فكرة "التمثيل" نفسها، وللتأمل في كيف تصبح الصورة نصًا، وكيف يستحيل النص إلى طيفٍ بصري متحرك، متقلب، و... حي.

ولعل أجمل ما في هذه التجربة أنها لا تحسم المعنى، بل تفتحه. فكما أن اللوحة لا تُختزل في شرح، فإن النص الرقمي لا يُختصر في قراءة واحدة. كل محاولة لوصفه هي بدورها عملٌ إكفراسي، يقترب من الضوء دون أن يدعي امتلاكه.

0 التعليقات: