أكتب اليوم بوعي يتأرجح بين تجربة المراقب وتفكير الباحث، متأملاً في العلاقة الملتبسة بين الصحافة الرقمية وثقة الجمهور. منذ بداية الألفية الثالثة، أخذ هذا الرابط شكلاً هشاً لا يكاد يصمد أمام العواصف المتتالية التي فرضتها التكنولوجيا الحديثة. لم يعد الأمر يقتصر على الانتقال من الورق إلى الشاشة، بل بات يتعلق بإعادة صياغة المصداقية ذاتها، وكأننا أمام عصر تُعرَّف فيه الحقيقة لا بما هو راسخ وثابت، بل بما ينجح في الانتشار ويحظى بعدد أكبر من “النقرات” والإعجابات.
الصحافة الرقمية وميلاد
الخوارزميات كحَكَم جديد
تعلّمت من أطروحة شوشانا
زوبوف في كتابها رأسمالية المراقبة (2019) أن المنصات الرقمية لم تكتفِ بنقل الأخبار،
بل صارت تصوغ أنماط السلوك الجماهيري وتعيد توجيه الانتباه وفق خوارزميات غامضة لا
تخضع للمساءلة. إن "الثقة" هنا لم تعد قيمة تُبنى ببطء عبر المهنية والتحقق،
بل صارت سلعة هشة تُنتَج وفق إيقاع تقني يتلاعب بأولويات المتلقي. ما يُعرض على شاشتي
أو شاشتك ليس نتيجة خيارات صحفية واعية، بل نتاج عملية حسابية معقدة تحاول أن تتنبأ
بما سيُثير انتباهنا ويحبسنا أمام الشاشة أطول فترة ممكنة.
تعددية الأصوات أم
فوضى السرديات؟
ومع ذلك، لا أريد أن
أرسم الصورة بلون واحد. فقد منحت الصحافة الرقمية فرصاً جديدة لكسر احتكار المؤسسات
الإعلامية الكبرى، وسمحت للأصوات المهمشة أن تجد طريقها إلى الفضاء العمومي. هنا أستحضر
ما كتبه ماثيو كيرشنباوم في Mechanisms (2008) حين أكد أن التقنية ليست مجرد أداة محايدة، بل وسيط يغيّر حدود النص والتلقي.
بالفعل، أصبح كل فرد قادراً على أن يكون ناقلاً للخبر أو صانعاً للرأي، وهو ما يفتح
الأفق أمام التعددية، لكنه يفتح أيضاً الباب على مصراعيه للفوضى. هذه الفوضى تجعل المتلقي
يعيش في حيرة مستمرة بين ما هو حقيقي وما هو مصطنع.
جائحة كوفيد-19: أزمة
ثقة عالمية
خلال جائحة كوفيد-19
برزت هذه الحيرة بشكل صارخ. في لحظة كان الناس يتطلعون فيها إلى المعلومة الدقيقة لإنقاذ
حياتهم، انفجرت موجات من الأخبار المتناقضة بين وسائل الإعلام التقليدية ومنصات التواصل
الاجتماعي. تقرير رويترز للصحافة الرقمية لعام 2023 أشار إلى أن جزءاً متزايداً من
الجمهور يستهلك الأخبار عبر “تيك توك” و“إنستغرام”، ما يعني أن مصداقية الخبر باتت
تُبنى داخل منصات صُممت أساساً للترفيه لا للصحافة. وهكذا وُضع الجمهور في قلب مفارقة:
الحاجة القصوى للمعلومة الموثوقة، مقابل الانغماس في قنوات تسوّق الوهم والسطحية.
انتخابات أمريكا
2016: الخبر الزائف كفاعل سياسي
أدركت خطورة المسألة
أكثر وأنا أتابع الجدل الذي صاحب الانتخابات الأمريكية لعام 2016. لقد تحولت الأخبار
الزائفة
(Fake News) إلى أداة
مركزية في اللعبة السياسية. تقارير عديدة، منها ما نشرته واشنطن بوست ونيويورك تايمز،
أظهرت كيف لعبت منصات مثل فيسبوك دوراً في تضخيم الأخبار الكاذبة التي استهدفت المترددين
في التصويت، بل وكيف استُخدمت تقنيات تحليل البيانات (مثل فضيحة Cambridge Analytica) لتوجيه رسائل سياسية مصممة بدقة لكل شريحة من الناخبين. هذه اللحظة التاريخية
لم تكن مجرد اختبار لمصداقية الصحافة الرقمية، بل كانت إعلاناً بأن الخوارزميات باتت
لاعباً رئيسياً في تشكيل الديمقراطية نفسها. كيف يمكن إذن الحديث عن "ثقة"
في زمن يُعاد فيه تعريف المجال العام عبر أدوات حسابية تخدم مصالح اقتصادية وسياسية
عابرة للحدود؟
الحرب في أوكرانيا:
الإعلام كساحة معركة
ثم جاءت الحرب في أوكرانيا
لتكشف بعداً آخر من هذا الصراع. لم تعد الحرب مجرد مواجهات عسكرية على الأرض، بل صارت
أيضاً حرباً إعلامية تخاض بالصور، والتغريدات، ومقاطع الفيديو القصيرة. كل طرف يسعى
إلى السيطرة على الرواية وتوجيه الرأي العام العالمي. وقد لاحظت أن وكالات الأنباء
الغربية والروسية على السواء وجدت نفسها في سباق محموم لتقديم "نسختها" من
الحقيقة. ومن المدهش أن كثيراً من الصور التي انتشرت في الأيام الأولى للحرب كانت مضللة
أو خارجة عن سياقها. وهكذا بدا أن المعركة على الثقة لا تقل شراسة عن المعركة على الأرض.
الجمهور كمنتِج للخبر
لكن هل المشكلة في
الصحافة الرقمية ذاتها أم في البنية الثقافية والاجتماعية التي تحيط بها؟ القارئ لم
يعد متلقياً سلبياً كما كان في زمن الصحافة الورقية. اليوم صار الجمهور جزءاً من عملية
صناعة الخبر، سواء من خلال مشاركته في نشر المعلومات أو عبر تعليقه وإعادة تدويره.
هذا التداخل يذكرني بما كتبه هنري جينكنز في Convergence Culture (2006) حول ثقافة التشارك، حيث يلتقي الإعلام المهني بالإعلام
الشعبي في شبكة معقدة من التفاعلات. هذه الثقافة التشاركية تعني أن الثقة لم تعد حكراً
على المؤسسات الإعلامية، بل أصبحت موزعة بين مئات وآلاف الفاعلين الذين يساهمون في
تشكيل المجال العمومي.
الحداثة السائلة وثقة
متحركة
في هذا السياق، يبدو
طرح زيغمونت باومان في الحداثة السائلة (2000) مناسباً جداً: فنحن نعيش زمناً سائلاً
لا يمكن فيه بناء ثقة صلبة ومستقرة على أرضية متغيرة باستمرار. إن المطالبة بعودة إلى
"المهنية التقليدية" قد تكون استجابة رومانسية، لكنها لا تكفي. ما نحتاج
إليه هو إعادة تعريف الصحافة نفسها لتتلاءم مع شروط العصر الرقمي: شفافية أكبر في عرض
مصادر الخبر، وتطوير آليات للتحقق تشارك الجمهور في عملية التدقيق، وربط المسؤولية
بالمحاسبة.
بين الشعبوية وفقدان
الثقة
غياب هذه الإصلاحات
يفتح الباب واسعاً أمام الشعبوية والتلاعب بالوعي الجماعي. فمن السهل أن تنمو النزعات
الشعبوية في بيئة فقد الناس فيها ثقتهم بالمؤسسات الإعلامية والسياسية معاً. رأينا
ذلك في صعود الحركات الشعبوية في أوروبا وأمريكا اللاتينية، حيث غالباً ما غذتها منصات
التواصل الاجتماعي بخطاب مبسط وجاذب لكنه مليء بالتحريف. وكأننا أمام مشهد يذكّرنا
بما كتبه نيكولاس كار في The Shallows (2010)،
حيث حذّر من أن الإنترنت يعيد تشكيل عقولنا لتصبح أكثر سطحية وأقل استعداداً للتفكير
النقدي العميق.
نحو عقد اجتماعي جديد
مع الإعلام
أستطيع أن أقول إن
بناء الثقة في زمن الصحافة الرقمية لم يعد مشروعاً إعلامياً صرفاً، بل صار رهاناً اجتماعياً
وثقافياً. فإذا فقد الناس ثقتهم في الإعلام، فإنهم لا يعزفون فقط عن متابعة الأخبار،
بل يصبحون عرضة للتلاعب والتحريض، وهو ما قد يقود إلى انهيار التماسك الاجتماعي. إننا
أمام معركة وجودية: فالخبر لم يعد يكتفي بالكشف عن الحقيقة، بل صار يسهم في صناعتها،
وفي رسم حدودها.
إن الطريق لاستعادة
الثقة يمر عبر عقد اجتماعي جديد بين الإعلام والجمهور. عقد يقوم على الصراحة والشفافية،
وعلى إشراك القراء لا كزبائن سلبيين بل كشركاء في عملية التحقق والتقييم. وقد بدأت
بعض المبادرات تظهر في هذا الاتجاه، مثل منصات "CheckNews" في فرنسا أو "PolitiFact" في الولايات المتحدة، التي تسمح للجمهور بالاطلاع
على آليات التحقق من الأخبار.
خاتمة مفتوحة على الأمل
أشعر أحياناً أننا
نعيش في مختبر عالمي مفتوح، تختبر فيه المجتمعات قدرتها على التمييز بين الحقيقة والزيف.
لكن هذا المختبر، على قسوته، يمنحنا فرصة لإعادة بناء العلاقة بين الصحافة والجمهور
على أسس جديدة: أكثر شفافية، أكثر تفاعلاً، وربما أكثر إنسانية أيضاً. فالثقة لن تعود
كهدية جاهزة من المؤسسات الإعلامية، بل ستُبنى من جديد عبر حوار مستمر مع المجتمع.
وكأنني أردد مع الفيلسوف يورغن هابرماس أن المجال العمومي ليس معطى ثابتاً، بل فضاء
يتشكل باستمرار، ويتطلب دوماً إعادة تفاوض بين الحقيقة والمصلحة.
إن الصحافة الرقمية،
برغم عيوبها وفوضاها، قد تظل أفضل مختبر لاختبار هذا التفاوض. فإما أن نعيد عبرها بناء
الثقة على نحو جديد، أو نتركها ساحة مفتوحة لقوى الزيف والتلاعب. والخيار، في النهاية،
ليس خيار الإعلاميين وحدهم، بل خيار المجتمع بأسره.
0 التعليقات:
إرسال تعليق