الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، أغسطس 28، 2025

تقرير غوتيريش: تندوف بين المأساة الإنسانية والحاجة إلى حل سياسي نهائي: ترجمة عبده حقي


مع اقتراب النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية من نصف قرن من الزمن، يطل تقرير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش هذه السنة ليضع النقاط على الحروف: الوضع الإنساني في مخيمات تندوف بالجزائر لم يعد مقبولاً، واستمرار النزاع يشكل خطراً على استقرار المنطقة بأكملها. التقرير، الذي قُدم أمام الدورة الثمانين للجمعية العامة، ليس مجرد وثيقة إدارية روتينية، بل هو مرآة تعكس بجلاء معاناة الآلاف من المحتجزين، وجرس إنذار يحث الأطراف على الدفع قدماً نحو حل سياسي واقعي ونهائي، يعيد للمنطقة أمنها واستقرارها.

منذ عقود يعيش آلاف المغاربة المحتجزين في تندوف في عزلة تامة عن العالم، محرومين من حقهم في العودة إلى وطنهم أو حتى التواصل مع عائلاتهم. التقرير الأخير لغوتيريش وصف الوضع الإنساني في المخيمات بالكارثي: نقص التمويل، سوء التغذية، غياب برامج التعليم والدعم للشباب، إضافة إلى تزايد انتهاكات حقوق الإنسان.

اللافت أن بعثة المانحين التي زارت المخيمات في مايو الماضي أدرجت لأول مرة مشاركة القطاع الخاص ضمن جهود التمويل، وهو مؤشر على اعتراف المجتمع الدولي بفشل الجزائر والبوليساريو في تدبير الوضع، وضرورة البحث عن بدائل. ورغم ذلك، يؤكد التقرير أن برامج بناء الثقة، التي أقرها مجلس الأمن منذ 1999 بهدف تسهيل لمّ شمل العائلات، لا تزال معلّقة بفعل تعنت قيادة البوليساريو والدولة المضيفة، ما يعمّق عزلة السكان ويجعل المخيمات ساحة مفتوحة للتجنيد والتوظيف السياسي.

لم يأت التقرير على ذكر الجزائر كبلد مضيف بشكل عابر، بل أشار بشكل غير مباشر إلى مسؤوليتها القانونية والأخلاقية عن وضعية المخيمات. فمنذ خمسين عاماً، ترفض الجزائر تسجيل سكان المخيمات لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، في خرق واضح للقانون الدولي الإنساني. هذا التلاعب بالأرقام يمنح البوليساريو هامشاً للتلاعب بالمساعدات الإنسانية، وهو ما أكدته تقارير أوروبية متتالية، أبرزها تقرير مكتب مكافحة الغش الأوروبي (OLAF) سنة 2015، الذي فضح تهريب المساعدات الأوروبية الموجهة للمخيمات نحو أسواق موريتانيا والجزائر.

على الجانب السياسي، جاء التقرير ليعيد التأكيد على مركزية العملية التي تقودها الأمم المتحدة لإيجاد حل سياسي للنزاع، محذراً من أن استمرار الوضع الحالي “غير مقبول”. وهنا يبرز الدور المغربي من جديد، إذ يضع المجتمع الدولي مبادرة الحكم الذاتي، التي قدمها المغرب سنة 2007، في صلب النقاش كحل واقعي وذي مصداقية.

هذه المبادرة لم تعد مجرد اقتراح مغربي، بل تحولت إلى مرجعية دولية: فقد وصفها مجلس الأمن في أكثر من 18 قراراً بأنها “جدية وذات مصداقية”. كما أن دولاً مؤثرة مثل الولايات المتحدة، إسبانيا، ألمانيا، هولندا، الإمارات، البحرين، والسنغال أعلنت صراحة دعمها لها باعتبارها السبيل الأنجع لإنهاء هذا النزاع.

وفي مقابل ذلك، يظهر الجمود في خطاب البوليساريو والجزائر، اللذين يتمسكان بخيار استفتاء متجاوز أثبتت الأمم المتحدة نفسها استحالته، ليس فقط لصعوبة تحديد الهيئة الناخبة، ولكن أيضاً لأن الاستفتاء لم يعد مطروحاً على طاولة مجلس الأمن منذ أكثر من عقدين.

أبرز ما ركّز عليه التقرير هو الانتهاكات المستمرة في مخيمات تندوف، حيث تتحكم البوليساريو في حياة السكان بقبضة من حديد، وتمنع أي صوت مخالف. منظمات حقوقية عديدة، بينها “هيومن رايتس ووتش” و“أمنيستي إنترناشونال”، سجلت حالات اعتقال تعسفي وتجنيد أطفال وإقصاء للمعارضين من داخل المخيمات.

هذا الوضع دفع منتدى الكناري الصحراوي (Foro Canario Saharaui) إلى رفع شكاوى رسمية إلى الأمم المتحدة بشأن الانتهاكات الممنهجة ضد النساء والشباب في المخيمات. وهو ما يؤكد أن الأزمة لم تعد إنسانية فقط، بل تحولت إلى ورقة سياسية تستغلها الجزائر والبوليساريو لمراكمة النفوذ على حساب حقوق الأفراد.

رغم إقرار التقرير بأن المواجهات شرق الجدار الدفاعي المغربي لا تتجاوز “اشتباكات منخفضة الكثافة”، إلا أن الإشارة إلى سقوط ضحايا من جنسيات إفريقية مختلفة (من موريتانيا ومالي والسودان) يفضح الطابع الميليشياوي للنزاع، ويؤكد تورط عناصر أجنبية في معارك لا علاقة لها بحقوق الصحراويين. المغرب من جانبه واصل الالتزام بوقف إطلاق النار، مع تعزيز قدراته الدفاعية لحماية حدوده ومواطنيه، وهو ما ينسجم مع توصيات مجلس الأمن الذي دعا جميع الأطراف إلى “ضبط النفس” وتجنب أي استفزازات.

لم يكتف الأمين العام بالتشخيص، بل أطلق تحذيراً واضحاً من أن استمرار النزاع بعد خمسين عاماً يهدد استقرار منطقة الساحل والصحراء، التي تعاني أصلاً من تنامي الإرهاب والجريمة المنظمة. وهنا يصبح الحل السياسي أكثر من ضرورة، بل شرطاً وجودياً لأمن المنطقة.

غوتيريش نوّه أيضاً بالدور النشط لمبعوثه الشخصي ستافان دي ميستورا، الذي كثف جولاته خلال عامي 2024 و2025 بين الرباط ونواكشوط وتندوف والجزائر، إلى جانب زيارات لعواصم أوروبية وأمريكية. ورغم الصعوبات، نجح دي ميستورا في رفع تقارير دورية إلى مجلس الأمن حظيت بدعم واسع، ما يعكس توافقاً دولياً متزايداً على ضرورة دفع العملية السياسية قدماً.

في مقابل مشاهد البؤس التي ترسمها المخيمات، يواصل المغرب تقديم مبادرات إنسانية وإنمائية تؤكد التزامه بقيم التضامن. آخرها استقبال ولي العهد الأمير مولاي الحسن أطفالاً فلسطينيين من القدس في مدينة تطوان، وهو مشهد يلخص المفارقة: بينما يختطف الانفصاليون الأطفال لتجنيدهم في نزاع عقيم، يفتح المغرب أبوابه أمام أطفال من فلسطين ليمنحهم لحظة أمل.

التقرير السنوي لغوتيريش ليس مجرد ورقة تقنية، بل وثيقة مرجعية ستغذي النقاشات داخل اللجنة الرابعة للجمعية العامة، حيث تتقاطع مواقف الدول بشأن ملف الصحراء. ومع اقتراب الذكرى الخمسين للنزاع، يجد المجتمع الدولي نفسه أمام اختبار: إما دعم حل سياسي واقعي يُنهي معاناة السكان، أو استمرار التواطؤ بالصمت مع الجزائر والبوليساريو.

اليوم، ومع اتساع رقعة الدعم لمبادرة الحكم الذاتي، وتزايد الاعتراف الدولي بمغربية الصحراء من خلال فتح أكثر من 30 قنصلية في العيون والداخلة، يبدو أن كفة التاريخ تميل لصالح المغرب. تقرير غوتيريش الأخير جاء ليؤكد أن استمرار الوضع الحالي لم يعد مقبولاً، وأن الحل الوحيد يكمن في طي صفحة الماضي عبر مبادرة واقعية تحقق مصالح الساكنة وتضمن استقرار المنطقة.

لقد قالها غوتيريش بوضوح: “إنه أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى التوصل إلى حل سياسي نهائي”. والمغرب، بمبادرته الرصينة ومواقفه المتزنة، يظل الطرف الأجدر بفتح الطريق نحو هذا الحل.

مراجع أممية ودولية:

قرارات مجلس الأمن حول الصحراء (2007-2024): جميعها تصف مبادرة الحكم الذاتي بأنها “جدية وذات مصداقية.

تقرير OLAF (2015): كشف تحويل المساعدات الإنسانية الموجهة إلى مخيمات تندوف.

تقرير هيومن رايتس ووتش (2022): وثّق انتهاكات حقوق الإنسان داخل المخيمات.

قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة (2023-2025) بشأن الوضع في الصحراء.

خطابات وزارات الخارجية الأمريكية والإسبانية والألمانية (2020-2023) التي أعلنت دعم مبادرة الحكم الذاتي.


0 التعليقات: