الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، أغسطس 30، 2025

صناعة الأسطورة الرقمية واختراع الملحمة في عصر الإنترنت: عبده حقي


أشعر، كلّما توغّلت في فضاء الإنترنت، أنّني لا أتعامل مع شبكة اتصالات فحسب، بل مع ورشة هائلة لإعادة كتابة الملاحم الإنسانية. لقد تغيّرت وظيفة السرد في زمننا؛ لم يعد حكراً على الشاعر الجاهلي أو الراوي الشعبي أو حتى الروائي الحديث، بل صار موزّعاً على ملايين الأصوات التي تبني سرديات متوازية ومتقاطعة في الوقت نفسه. الإنترنت، بهذا المعنى، ليس مجرد وسيط، بل "أرض خصبة للأساطير" بالمعنى الذي استخدمه رولان بارت في كتابه  Mythologies، "الأساطير" حيث أشار إلى أنّ الأسطورة ليست سوى خطاب يومي يتلبّس ثوب القداسة.

لقد خرجت الملحمة من صفحات الكتب ومن الحلقات الشعبية لتستقرّ في أفق جديد: أفق التفاعل اللحظي. لم يعد البطل الفردي وحده من يصوغ حكاية الجماعة، بل صار كل مستخدم جزءاً من السردية. الصور التي تُلتقط على عجل، الشعارات التي تُكتب في لحظة غضب، والمقاطع المرئية التي تنتشر عبر ملايين الهواتف، كلّها تشارك في صياغة ميثولوجيا معاصرة. الأمر يذكّرني بما كان يحدث في المجتمعات الشفوية القديمة، حيث لم تكن الحكاية ملكاً لصاحبها الأول، بل ملكاً للجماعة، تتناقلها وتعيد تشكيلها. واليوم، على المنوال نفسه، يعيد الفضاء الرقمي إنتاج هذا التشارك، ولكن بسرعة تكاد تفوق الإدراك.

وإذا كانت الملاحم القديمة مثل الإلياذة والأوديسة أو سيرة عنترة والسيرة الهلالية قد صاغت صورة الأمة في مخيالها الجماعي، فإنّ الإنترنت يقدّم ملاحم جديدة تعكس القلق، الطموح، والمقاومة في عصر العولمة. ففي أحداث "الربيع العربي" مثلاً، لم تكن الساحات وحدها من شكّل لحظة الثورة، بل كانت "الفيسبوكيات" و"التغريدات" و"الفيديوهات القصيرة" بمثابة ملحمة رقمية حيّة، جمعت ملايين الأفراد حول صور رمزية: فهذا متظاهر أعزل يواجه دبابة، أو هاتف محمول يصوّر سقوط نظام استبدادي. لقد تحوّل هاشتاغ مثل #TahrirSquare أو #Jan25 إلى أيقونة لا تقل قوة عن أي بيت شعري من أشعار الحماسة القديمة.

بل إنّ هذه الملحمة الرقمية لا تقتصر على السياسة فحسب، بل تمتد إلى الثقافة والرياضة أيضاً.

لقد تذكّرتُ كيف أنّ انتصارات المنتخب المغربي في كأس العالم 2022 تحوّلت إلى أسطورة حيّة، إذ لم تكن مجرد انتصارات رياضية، بل حكاية جماعية تروى لحظة بلحظة عبر الإنترنت، صور الأمهات واللاعبين في الميدان، دموع الجمهور، وهتافات الملايين. كل هذه الصور كوّنت ملحمة وطنية-عالمية جرى تداولها بلغات وثقافات شتّى، حتى غدت مثالاً على كيف يمكن للأسطورة الرقمية أن تتجاوز حدود الجغرافيا لتصنع لحظة إنسانية مشتركة.

وعلى صعيد آخر، تكشف الحرب في غزة عن وجه مأساوي لهذه الصناعة الرقمية. إنّ الصور الخارجة من القطاع لا تُعرض اليوم في قاعات السينما ولا في كتب التاريخ بعد مرور عقود، بل تنتشر فوراً، وتحوّل معاناة المدنيين إلى سردية ملحمية عن الصمود والبطولة. المقاطع التي تُظهر أطفالاً يخرجون من تحت الركام أو أطباء يواصلون عملهم تحت القصف أصبحت جزءاً من ملحمة حيّة، تتناقلها شعوب العالم وتعيد إنتاجها بلغات مختلفة، لتصبح بذلك "ذاكرة رقمية جماعية" توازي في أثرها ما كان للحكايات الكبرى من سلطة وجدانية في الماضي.

هذا التشكّل المستمر للأسطورة الرقمية يقودني إلى التساؤل: هل نحن أمام ميلاد "ملحمة إنسانية كونية" لم تعرفها البشرية من قبل؟ إنّ ما يحدث عبر الإنترنت يشبه إلى حد بعيد ما وصفه بنديكت أندرسون في الجماعات المتخيّلة: قدرة النصوص (أو بالأحرى الصور والهاشتاغات اليوم) على صناعة شعور بالانتماء إلى جماعة عابرة للحدود. وما أكثر ما يتجلّى هذا في التظاهرات التضامنية التي تُنظّم حول العالم متأثرة بانتشار مقطع فيديو أو صورة مؤثرة.

لكن هذه الملحمة ليست نقية دائماً، فكما تحمل بذور الحرية تحمل أيضاً بذور التضليل. نحن نعيش زمن "الأسطورة الزائفة"، حيث يمكن لصورة مفبركة بتقنيات الذكاء الاصطناعي أن تتحول إلى "حقيقة" يتداولها الملايين. وهنا يحضرني ما كتبه زيغمونت باومان عن "الحداثة السائلة": حيث كل شيء سريع التشكّل والزوال. إنّ أسطورة رقمية قد تولد في الصباح وتموت عند المساء، وقد تترك أثراً باهتاً لا يتجاوز دورة إعلامية واحدة. فهل يمكن لأساطير قصيرة العمر أن تبني وعياً جماعياً طويل الأمد؟

في المقابل، يفتح الإنترنت مجالاً جديداً لم يعرفه العالم القديم: الملحمة التفاعلية. لم يعد المتلقي متفرجاً صامتاً على خشبة المسرح، بل صار مشاركاً في صياغة الأحداث. الألعاب الإلكترونية مثل Fortnite أو العوالم الافتراضية مثل Metaverse تُحوّل البطولة إلى تجربة جماعية يتوزّع فيها الدور بين آلاف اللاعبين، بحيث يغدو كل واحد منهم جزءاً من نص أسطوري أكبر. وهذا يذكّرني بما وصفه ميشيل دو سرتو في كتابه اختراع الحياة اليومية: أنّ الأفراد العاديين قادرون على "المناورة" داخل الأنظمة الصارمة لإنتاج معاني جديدة.

ويبقى السؤال الجوهري: هل ستظل هذه الملاحم الرقمية مجرّد زينة لعصر ما بعد الحداثة، أم ستغدو جزءاً من بنية وعي الإنسان؟ أعتقد أنّها في طريقها إلى أن تصبح ذاكرة جمعية بديلة عن الكتب والحكايات التقليدية. فالجيل الذي ينشأ اليوم على الفيديوهات القصيرة والميمات والهاشتاغات، سيحمل في ذاكرته "أساطيره الخاصة"، أساطير قد لا تُكتب على الورق، لكنها ستظل محفوظة في الأرشيف الرقمي الذي لا يزول.

إنّ صناعة الأسطورة الرقمية إذن ليست مجرّد نزوة ثقافية، بل هي تحوّل جذري في طريقة تشكّل الوعي الجمعي. وكما كان هوميروس أو الفردوسي أو الجاحظ في زمنهم بناة للخيال الجمعي، أصبح اليوم صانعو المحتوى، والمصورون الميدانيون، والناشطون الرقميون بناة ملاحم جديدة، بعضها يُضيء مسار الإنسانية نحو الحرية والعدالة، وبعضها الآخر يُغرقها في أوهام زائفة. وبين الحقيقة والزيف، بين المقاومة والهيمنة، يتشكّل النص الجديد للبشرية: نصّ يمكننا أن نسمّيه، بلا تردّد، الملحمة الرقمية.

المراجع والمصادر

رولان بارت، Mythologies، باريس: دار سوي، 1957.

بنديكت أندرسون، Imagined Communities، لندن: فيرسو، 1983.

والتر بنيامين، "العمل الفني في عصر إعادة الإنتاج الآلي"، 1936. (الترجمات العربية المتعددة).

زيغمونت باومان، Modernity and Liquid Life، بوليتي، 2000.

ميشيل دو سرتو، L’invention du quotidien، باريس: Gallimard، 1980.

هيغل، محاضرات في علم الجمال (Lectures on Aesthetics).

شوشانا زوبوف، عصر رأسمالية المراقبة (The Age of Surveillance Capitalism)، نيويورك: PublicAffairs، 2019.

Manuel Castells, The Rise of the Network Society, Wiley-Blackwell, 1996.

مقالات صحفية ومواد إعلامية حول: الانتخابات الأمريكية 2016، الحرب في أوكرانيا، الربيع العربي (BBC, Al Jazeera, The Guardian).

أرشيف رقمي للصور والفيديوهات الخاصة بالحرب في غزة (2023–2025) والتوثيق الحقوقي الدولي (UN Reports, Human Rights Watch).

0 التعليقات: