إيتالو كالفينو وكلود بونفوا: في استخدامات الأدب وتجديد أشكال السرد
بين سنتي 1963 و1965 أجرى الناقد الفرنسي كلود بونفوا سلسلة من الحوارات مع الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو، نُشرت لاحقاً تحت عنوان استخدامات الأدب. هذه الحوارات تحوّلت إلى مختبر فكري مفتوح حول معنى الأدب، حدوده، وأفق تجديده في القرن
العشرين. كالفينو، الذي ارتبط اسمه بتجارب السرد التجريبي والانتماء إلى جماعة أوليبّو، وجد في هذه الجلسات فرصة ليضع أمام القارئ رؤيته للأدب كفضاء للّعب بالخيال، وللاختبار الدائم لأدوات اللغة. أما بونفوا فقد لعب دور المحاور المحرّض، القادر على دفع الكاتب إلى تفكيك أسئلته العميقة حول وظيفة الأدب في مجتمع يتغير بسرعة.لا يمكن قراءة استخدامات
الأدب دون استحضار اللحظة التاريخية التي وُلد فيها: أوروبا الستينيات، حيث طغت النقاشات
حول دور المثقف، حدود الواقعية، وظهور تيارات ما بعد البنيوية. في هذا السياق يقدّم
كالفينو تصوّراً مغايراً للأدب؛ فهو لا يراه مرآة ساذجة للواقع، بل شبكة معقّدة من
الإمكانات السردية. هنا يظهر أثره الكبير على تطور الرواية الأوروبية التي خرجت من
أسر التمثيل الواقعي لتصبح مختبراً للتجريب.
كالفينو يتعامل مع
الكتابة بوصفها حواراً دائماً مع القارئ. إنه يرفض أن يكون النص مغلقاً، بل يريده مجالاً
مفتوحاً للتأويل. هذا الموقف تجلّى في أعماله اللاحقة مثل لو أن مسافراً في ليلة شتاء،
حيث يصبح القارئ شخصية فاعلة داخل النص. من خلال هذه الرؤية، يضع الأدب في موقع قريب
من العلوم الإنسانية الأخرى، لا كمرآة للواقع فحسب، بل كآلية لاختبار حدود الإدراك
ذاته.
الحوارات مع بونفوا
تكشف أيضاً عن التوتر بين النزعة الجمالية والنزعة الأخلاقية في فكر كالفينو. فهو،
رغم انشغاله بالتجريب الشكلي، ظل يسائل وظيفة الأدب الاجتماعية: ما الذي يمكن أن يضيفه
للوعي الجمعي؟ كيف يساهم في فهم تعقيدات العالم؟ هنا نلمح الجسر الذي حاول كالفينو
أن يبنيه بين التراث الواقعي للأدب الإيطالي وبين الطموحات الشكلية لجماعة أوليبّو.
الأدب عنده ليس رفاهية بل تمرين دائم على التفكير النقدي، على ابتكار طرق جديدة لرؤية
العالم.
كما تكشف هذه الحوارات
عن البعد الفلسفي في تجربة كالفينو. فهو يقارب الأدب كأداة إبستمولوجية، قريبة من العلم
في دقته، ومن الفلسفة في طموحها. من هنا كانت استعاراته المتكررة المستقاة من علم الرياضيات
والفيزياء: النص عنده نظام احتمالات، شبكة علاقات، أو لعبة من القوانين الداخلية. هذه
الرؤية جعلته أحد أبرز الوجوه التي مهدت للانتقال من الرواية الكلاسيكية إلى أشكال
أكثر تعقيداً، حيث يندمج الخيال مع البنية، والشخصية مع القارئ.
لكن الأهم في هذه الحوارات
هو جرأة بونفوا على دفع كالفينو إلى الاعتراف بحدود مشروعه. ففي أكثر من موضع نلمح
حذراً من الكاتب تجاه المبالغة في التجريب، وكأنه يخشى أن يفقد الأدب صلته بالحياة.
هذا الوعي المزدوج – بين رغبة التجديد وخشية القطيعة مع القارئ – هو ما أعطى لتجربة
كالفينو فرادتها. فهو لم يسقط في النخبوية الشكلانية التي اتُّهم بها بعض معاصريه،
بل ظل محافظاً على حس سردي قادر على الإمساك بجمهور واسع.
من زاوية أخرى، يمكن
القول إن استخدامات الأدب يقدم لنا نموذجاً للحوار الثقافي بين كاتب ومفكر. فالنص ليس
وثيقة أحادية الصوت، بل ساحة جدل مفتوح. بونفوا، بأسئلته الدقيقة، منح كالفينو فرصة
لمساءلة نفسه وإعادة صياغة أفكاره. وهذا البعد الحواري هو ما يجعل الكتاب حياً حتى
اليوم، إذ يمنح القارئ إحساساً بالمشاركة في جلسة فكرية نابضة.
إن القيمة الكبرى لهذه
الحوارات تكمن في أنها تكشف كيف يفكر كاتب كبير في مهنته، في أدواته، وفي حدود إمكاناته.
الأدب، في نظر كالفينو، ليس نشاطاً معزولاً بل ممارسة يومية للبحث، أشبه بتجربة علمية
مستمرة. ومن هنا يصبح استخدامات الأدب ليس فقط شهادة على مرحلة من مسار كاتب إيطالي
بارز، بل مرجعاً لفهم تحولات السرد في القرن العشرين.
اليوم، وبعد مرور ستة
عقود، ما زال هذا الكتاب يطرح أسئلته بحدة. ففي زمن الذكاء الاصطناعي والوسائط الرقمية،
يبدو حديث كالفينو عن الأدب كلعبة احتمالات وكفضاء للتجريب أكثر راهنية من أي وقت مضى.
إنه تذكير بأن الأدب، مهما تغيّرت وسائطه، يظل فناً للبحث عن المعنى في عالم يتسارع
نحو المجهول.
0 التعليقات:
إرسال تعليق