تشهد العلاقات المغربية – الإسبانية، ومن ورائها مع الحلف الأطلسي، مرحلة دقيقة يطبعها التوتر والريبة بعد إعلان وزارة الدفاع الإسبانية عن إطلاق مناورات عسكرية واسعة النطاق شملت القوات البرية والجوية والبحرية، إضافة إلى وحدات السايبر والفضاء. هذه التدريبات، التي جرى تنظيمها في مختلف النقاط التي تعتبرها مدريد مناطق ذات "سيادة وطنية" خارج البر الإسباني، ركّزت بشكل خاص على مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين، في وقت تستعد فيه لجنة برلمانية تابعة لحلف شمال الأطلسي لزيارة مليلية في سابقة تثير حساسية بالغة في الرباط.
وزارة الدفاع الإسبانية
قدّمت هذه المناورات باعتبارها جزءاً من خطة لتعزيز الجاهزية القتالية وردع أي تهديدات
محتملة، مؤكدة أنها شملت أرخبيل البليار والكناري والجزر الجعفرية، إلى جانب سبتة ومليلية.
غير أن الطابع الرمزي لهذه الأنشطة يظل محور جدل: هل هي مجرد رسالة داخلية لتأكيد السيادة
الإسبانية، أم أنها خطوة موجّهة بالأساس إلى المغرب، الذي لا يتوقف عن المطالبة بإنهاء
الاحتلال التاريخي للمدينتين؟
خبير أمني مغربي اعتبر
هذه التدريبات ذات طابع استفزازي، مشيراً إلى أن وصفها بعملية "ردع" يعني
بالضرورة وجود طرف تعتبره مدريد منافساً مباشراً، وهو المغرب. كما أعاد إلى الأذهان
الخلفية التاريخية للعقيدة العسكرية الإسبانية التي لم تتخلص، بحسب تعبيره، من إرثها
الفرانكوي وما يحمله من عقدة تاريخية تجاه المغرب ومعاركه التي دحرت الوجود الإسباني
في فترات مختلفة.
أكثر ما يثير القلق
في الرباط هو الزيارة المرتقبة لوفد برلماني من الجمعية البرلمانية لحلف شمال الأطلسي
إلى مليلية، إذ يرى مراقبون أنها قد تكون بداية مسار يهدف إلى إدخال المدينتين المحتلتين
تحت المظلة الدفاعية للحلف. ففي قمة مدريد عام 2022، دفعت إسبانيا باتجاه توسيع مفهوم
الدفاع الجماعي ليشمل اعتبارات سياسية وسيادية، وليس فقط جغرافية، وهو ما يفتح الباب
أمام إدماج سبتة ومليلية في ترتيبات الحماية الأطلسية رغم أن ميثاق واشنطن لعام
1949 لا يتيح ذلك صراحة.
في المقابل، هذا
الخبير على أن المناقشات البرلمانية لا تعني قرارات رسمية، مؤكداً أن الناتو يدرك أهمية
المغرب كشريك استراتيجي متقدم، خاصة في مواجهة الإرهاب وتهديدات الشرق الأوسط. وهو
ما يجعل من الصعب، في نظر الرباط، أن يغامر الحلف بإثارة أزمة مباشرة مع المغرب من
أجل قضيتين استعماريتين عالقتين.
من العوامل التي تزيد
من حساسية المشهد ما يشهده المغرب من تحديث نوعي لترسانته العسكرية، عبر شراكات استراتيجية
مع الولايات المتحدة وإسرائيل والهند، بما في ذلك مشاريع تصنيع عسكري محلي مثل مصنع
المدرعات الهندية قرب الدار البيضاء. هذا التطور يقلق المؤسسة العسكرية الإسبانية التي
تنظر إليه باعتباره تهديداً محتملاً لموازين القوى في المنطقة.
غير أن المغرب يؤكد
باستمرار أن توجهاته دفاعية وليست هجومية، وأن مطالبه باسترجاع سبتة ومليلية ستظل محكومة
بالمسار السلمي وبالحوار الثنائي، على غرار ما تطالب به إسبانيا نفسها بشأن جبل طارق.
العلاقة بين المغرب
والحلف الأطلسي تمر من منطقة رمادية دقيقة: فمن جهة، المغرب حليف استراتيجي لا غنى
عنه في الضفة الجنوبية للمتوسط، ومن جهة أخرى، تستمر إسبانيا في التمسك بخيارات عسكرية
ورمزية تضع المدينتين المحتلتين في صلب أجندتها الدفاعية، محاولةً جلب الناتو إلى هذا
الملف.
بين هذه الموازين المتشابكة،
يبدو أن الحلف الأطلسي سيحاول الحفاظ على التوازن، فلا يخسر شريكاً أساسياً مثل المغرب،
ولا يتجاهل هواجس عضو كامل مثل إسبانيا. غير أن السؤال يظل مطروحاً: هل تتحول هذه التحركات
إلى أزمة صامتة قابلة للاحتواء، أم إلى تصعيد يعيد فتح ملف السيادة على سبتة ومليلية
في سياق إقليمي شديد الحساسية؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق