لقد شكل الاستعمار الفرنسي منظومة كاملة من العنف المادي والرمزي. ولعل أبشع ما كُشف عنه أرشيف تلك المرحلة هو توظيف الكلاب الجائعة كأداة للترويع والإبادة بحق العبيد السود في المستعمرات. مشاهد تقشعر لها الأبدان، لكنها في نظر قادة الجيوش الاستعمارية لم تكن سوى جزء من “تأديب” شعوب متمردة على سلطة الغازي.
من بين الشهادات التاريخية التي لا تزال تثير الرعب، رسالة كتبها الجنرال الفرنسي روشامبو في هايتي مطلع القرن التاسع عشر، يخاطب فيها أحد ضباطه مطالباً بتعزيز “الكلاب المقاتلة” التي دُرّبت خصيصاً لتمزيق أجساد السود. لم تكن تلك مجرد نوبة وحشية فردية، بل ممارسة مُمأسسة تعكس العقلية الاستعمارية التي رأت في الإنسان الأسود مادة للتجريب والترويع. وقد وثقت باحثة أميركية مثل سارة جونسون تفاصيل هذه السياسات القذرة في دراسات أكاديمية، أبرزت كيف تحولت أجساد العبيد إلى طُعم يُقدَّم للوحوش، في حفلات قتل جماعي تُنظّم على مرأى من الجنود والسكان.
كان تدريب الكلاب يخضع
لخطط دقيقة. يُحرم الحيوان من الطعام لأيام، ثم يُعرَّض لأشكال تماثيل مطلية بالسواد،
مغطاة باللحم، حتى تتكوّن لديه غريزة مهاجمة كل ما هو أسود البشرة. وفي لحظة التنفيذ،
يُلقى بعبد أعزل أمام هذه الكلاب المسعورة، في مشهد غايته أبعد من القتل الجسدي: إنها
عملية اغتيال للكرامة الإنسانية، ورسالة إرهاب موجهة لكل من تسوّل له نفسه الثورة.
كانت فرنسا التي تتغنى بمبادئ الثورة وحقوق الإنسان، في الوقت ذاته، تصوغ أبشع مختبر
للعنف الاستعماري.
هذه الصور التي تنتمي
للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ليست مجرد وقائع من الماضي. إنها علامات عميقة في
الذاكرة الجمعية للشعوب المستعمَرة، تذكّر بأن خطاب “المهمة التمدينية” لم يكن سوى
قناع يخفي مؤسسة قائمة على الدم والإذلال. فالإنسان الأسود لم يُعامَل ككائن بشري كامل
الحقوق، بل كشيء يُستخدم لترهيب الآخرين. وهنا تتجلى المفارقة: الحضارة الأوروبية التي
رفعت شعارات الحرية، صاغت في الوقت ذاته أشدّ أشكال القمع قسوة.
يرى الكاتب أن هذه
البنية العنيفة لم تُدفن تماماً بانتهاء الحقبة الاستعمارية. فهناك خيوط متصلة بين
ممارسات الأمس وسياسات اليوم. يكفي النظر إلى صور الإبادة والتجويع والتدمير في مناطق
النزاع المعاصرة، لنفهم أن ما كان يُسمّى “آلة الاستعمار” قد تحوّل إلى نماذج محدثة
من السيطرة. إن استخدام الكلاب لتمزيق أجساد العبيد كان رمزاً لآلية أكبر: تجريد الإنسان
من إنسانيته وتحويله إلى موضوع للعرض أو وسيلة للردع. وهذه الفلسفة ما زالت تتجلى اليوم،
وإن بأشكال أكثر تقنية ودموية.
إن إعادة قراءة هذه
الصفحات السوداء ليست مجرد نبش في الماضي، بل ضرورة لفهم حاضر ما زال يتغذى على إرث
العنف الاستعماري. فالتاريخ لا يمضي بخط مستقيم، بل يترك وراءه رواسب تواصل تشكيل السياسات
والذهنيات. وما لم يتم الاعتراف الكامل بفظائع الأمس، ستظل أشباح الكلاب التي مزقت
أجساد العبيد تحوم فوق حاضرنا، تذكّرنا بأن الإنسانية لم تتعلم بعد كيف تُدفن أدوات
الرعب إلى الأبد.
0 التعليقات:
إرسال تعليق