يأتي كتاب نيكولاس ذيـاكوبولوس Automating the News: How Algorithms Are Rewriting the Media في لحظةٍ مفصليةٍ من تاريخ الصحافة، حيث لم تعد الخوارزميات مجرد أدواتٍ مساعدة في غرفة الأخبار، بل أصبحت بنيةً تحتيةً معرفية وتنظيمية تؤثر في اختيار القصص، وصياغتها، وتوزيعها، وقياس تفاعل الجمهور معها. صدر الكتاب عن مطبعة جامعة هارفارد عام 2019، وقدّم إطارًا «حذرًا ومتفائلًا» لفهم الإمكانات والمخاطر معًا، بعيدًا عن سرديات التهويل أو الوعود التقنية المطلقة.
من «روبوتات الأخبار»
إلى «الناقلين الرقميين»
يرصد المؤلف التحولات
عبر خرائط مفاهيمية وفصول تطبيقية؛ من «روبوتات الأخبار» التي تنتج نصوصًا أولية في
مجالات كالتقارير المالية والرياضية، إلى «الورّاقين الرقميين» (digital
paperboys) في منصات
التوزيع الخوارزمية التي تعيد ترتيب الأولويات التحريرية عبر خوارزميات التوصية والترند.
تكشف عناوين الفصول ومساراتها عن رؤية تركيبية توحّد بين الإنتاج والتوزيع والمساءلة،
وتضع القارئ داخل دينامية النظام الإعلامي الخوارزمي كله.
صحافة هجينة: الإنسان
في قلب الأتمتة
لا يتعامل الكتاب مع
الأتمتة بوصفها إحلالًا آليًا للصحفي، بل كتصميمٍ لصحافة «هجينة» تعيد توزيع المهام:
تولِّد الآلة المسودات، وتكشف الأنماط، وتراقب التدفقات، بينما يحتفظ الصحفي بسلطة
التحرير، والتحقق، والتأطير الأخلاقي. هذا التصوّر الهجين—الذي تناوله أيضًا عدد من
مراجعي الكتاب—ينطلق من قناعة بأن «التحيز» لا يُلغى تقنيًا، بل يُدار مؤسسيًا عبر
الحوكمة، والمعايير، وشفافية سير العمل.
«مساءلة الخوارزميات» كوظيفة صحفية
أحد أهم مساهمات ذيـاكوبولوس
النظرية والعملية هي ترسيخ «مساءلة الخوارزميات» (Algorithmic Accountability) كامتداد حديث لوظيفة «كلب الحراسة» الصحفية.
يقترح إطارًا للتحقيق في كيفية اشتغال الخوارزميات: ما البيانات التي تتغذى عليها؟
ما معايير القرار؟ ما آثارها الجانبية والانحيازات؟ وكيف يمكن اختبارها أو «الهندسة
العكسية» لها في الحدود المتاحة؟ لقد أسّس المؤلف هذا الحقل بمقالات ودلائل سابقة،
ثم جاء الكتاب ليمنحه سياقًا موسعًا يشمل الإنتاج والتوزيع.
منجم البيانات في غرفة
الأخبار
يعرض الكتاب حالاتٍ
تطبيقية تبرز كيف تُستخرج القصص من «الحفر» في البيانات: من متابعة المناقصات الحكومية،
إلى تعقّب التغيرات في خوارزميات المنصات التي تعيد تشكيل قابلية الظهور. ويقترح المؤلف
ما يشبه «بابًا» صحفيًا جديدًا هو «تغطية الخوارزميات» (The Algorithms Beat): أي تخصيص صحفيين يجمعون بين مهارات التحقيق
والبرمجة لفهم الكيفية التي تمارس بها الخوارزميات السلطة في حياتنا العامة. هذا الباب
ليس ترفًا؛ إذ باتت الخوارزميات تتحكم في مسارات الوصول إلى المعلومات ذاتها.
الأخلاقيات: الشفافية،
القابلية للشرح، والحوكمة
يضع ذيـاكوبولوس محورًا
أخلاقيًا ثلاثي الأبعاد:
الشفافية بوصفها كشفًا
للمنهج لا للوصفة السرية بالضرورة؛ أي توثيق مصادر البيانات، وخطوات التنظيف، وحدود
النموذج.
القابلية للشرح (Explainability) بحيث يفهم الصحفي—ومن ثمّ الجمهور—لماذا اقترحت
الخوارزمية هذه الزاوية أو رتّبت القصص على هذا النحو.
الحوكمة المؤسسية:
سياسات داخلية، ومراجعات دورية للانحيازات، وإجراءات استئناف وتصحيح.
هذه المبادئ تجد سندًا
في أدبيات أوسع حول محاسبة القرارات الخوارزمية في الحقول الصناعية والمدنية، وتستبطن
أن «الأتمتة» قرار تحريري قبل أن تكون قرارًا تقنيًا.
الاقتصاد السياسي للأتمتة:
السرعة والتكلفة والجمهور
لا يتهرّب الكتاب من
«الاقتصاد السياسي» للأتمتة؛ فالدوافع ليست معرفية فقط، بل تتصل بتقليل الكلفة وتسريع
النشر وتضخيم التوزيع. هنا تظهر مفارقة: الأتمتة قد توسّع التغطية في مجالات «منخفضة
القيمة» اقتصاديًا (مثل أخبار الأحياء المحلية أو نتائج المباريات الصغيرة)، لكنها
قد تُغري غرف الأخبار بالتسطيح إن رُبط الأداء صحافيًا بمنطق «المشاهدات» وحده. يعالج
المؤلف هذه المعضلة بدعوةٍ إلى تصميم مقاصدي (goal-oriented design) يربط أدوات الأتمتة بأهداف تحريرية واضحة،
وإلى مقاييس نجاح تتجاوز «النقرات» نحو الأثر العام والمعرفة.
نقاط قوة الكتاب
جسرٌ بين النظرية والممارسة:
يقدّم نماذج وأسئلة إجرائية يمكن تحويلها مباشرةً إلى سياسات غرف أخبار أو أدلة تدريب.
تفكيك أسطورة «الحياد»:
يؤكد أن الخوارزميات نتاج خيارات بشرية عند كل خطوة: جمع البيانات، تمثيلها، وزن المتغيرات،
وضبط العتبات؛ ومن ثمّ فالمساءلة ضرورة لا ترف.
منظور منظومي: لا يحصر
النقاش في «إنتاج المحتوى»، بل يشمل دورة الحياة كاملة: الاكتشاف، الإنتاج، التوزيع،
القياس، والتعلّم الارتجاعي لجودة النماذج.
حدودٌ ونقاشات مفتوحة
قابلية التعميم عبر
غرف الأخبار الصغيرة: مع أن الكتاب يقترح وصفات عملية، تبقى كلفة البنية التحتية البشرية
والتقنية عائقًا أمام مؤسسات محلية محدودة الموارد؛ وهو نقاش يتطلب حلولًا تعاونية
مفتوحة المصدر واتحادات مهنية لتقاسم الأدوات والبيانات.
الشفافية وحدود السرّية
التجارية: يقرّ المؤلف بأن الشفافية قد تصطدم بعقود المنصات أو مورّدي التكنولوجيا؛
ما يفرض ابتكار صيغ «شفافية منهجية» لا تُفصح عن الشيفرة لكنها تُلزم بالإفصاح عن مجموعات
البيانات والمنطق العام للاشتغال.
تحيزات البيانات التاريخية:
حتى مع أفضل النوايا، قد يعيد التدريب على أرشيفٍ منحاز إنتاج الظلم القديم في توصياتٍ
أو تصنيفاتٍ جديدة، وهو ما يستدعي ممارسات تدقيق بيانات (data audits) مستمرة.
لماذا يهم القرّاء
العرب؟
تتسارع تجارب الأتمتة
في غرف الأخبار العربية، من الترجمة المولَّدة إلى تلخيص الوثائق والبيانات المفتوحة،
ومن روبوتات «التحديث العاجل» إلى أدوات قياس التفاعل. يقدم كتاب ذيـاكوبولوس خريطة
طريق عملية لبناء سياسات تحريرية تحافظ على «العقل الصحفي» في صلب العملية، وتحوّل
الأتمتة من مغامرة تقنية إلى مشروع مؤسسي أخلاقي يمكن مساءلته. كما أن طرح «باب الخوارزميات»
يفتح أمام الصحفيين الاستقصائيين العرب مجالًا بكرا للتحقيق في أثر الخوارزميات على
المجال العام: من توصيات المنصات، إلى أنظمة الإعلانات السياسية، إلى تصنيف المحتوى
وحجبه.
خاتمة
ليس هذا الكتاب دعوةً
إلى «تسليم القلم للآلة»، بل دعوةٌ إلى إعادة تعريف القلم ذاته. ما يقترحه ذيـاكوبولوس
هو «تصميم صحافة هجينة» تُمكّن الخوارزميات من القيام بما تجيده—الحوسبة على نطاق واسع،
واكتشاف الأنماط—وتُبقي على ما لا تقوم به الآلة: الحكم المهني، الحساسية الأخلاقية،
والسياق الثقافي. هكذا فقط تصبح الأتمتة رافعةً للصحافة لا نقيضًا لها، ومجالًا جديدًا
للمساءلة العامة بدل أن تكون «صندوقًا أسود» يعيد إنتاج اختلالاتنا القديمة بواجهةٍ
لامعة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق