بين عامي 1984 و1985، جلس الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، وقد بلغ من العمر عتياً وفقد بصره، أمام أوزفالدو فيراري في سلسلة من الحوارات الإذاعية التي تحولت لاحقاً إلى كتاب بعنوان The Dialogues. لم تكن هذه الأحاديث مجرد تبادل لأفكار عابرة، بل بمثابة كشف حيّ عن فلسفة بورخيس الأخيرة تجاه الزمن، الميتافيزيقا، الذاكرة، والكتابة، في لحظة كان فيها يودّع العالم بعين داخلية نافذة. يقدّم النص شهادة فريدة عن الكيفية التي تتحول فيها المحادثة البسيطة إلى بناء فكري غني، وكيف يمكن للصوت الإذاعي أن يحتفظ بعمق الكتابة الفلسفية.
الحوارات بين خورخي
لويس بورخيس وأوزفالدو فيراري ليست وثائق إذاعية وحسب، بل مرايا تتقاطع فيها فلسفات
بورخيس مع أسئلة الوجود الكبرى. ففيها يتبدى الهاجس المركزي الذي رافق الكاتب الأرجنتيني
طوال حياته: الزمن. كان الزمن عند بورخيس معضلة وجودية وجمالية في آن واحد. ففي أحد
مقاطع الحوار يتحدث عن “الحاضر” باعتباره سراباً يتلاشى بمجرد أن نحاول القبض عليه.
هذه الرؤية تجعل من الكتابة محاولة مستمرة لوقف الانهيار، لتثبيت لحظة في نص لا ينتمي
إلى زمن بعينه.
المثير أنّ فيراري
لم يكن محاوراً محايداً، بل كان يسعى إلى دفع بورخيس نحو أقصى ما يمكن أن يبوح به.
أسئلته البسيطة في ظاهرها كانت بمثابة مفاتيح لأبواب معقدة، إذ كان يضع أمام الأديب
العجوز قضايا الميتافيزيقا والذاكرة والكتابة بوصفها أدوات لفهم العالم. هكذا تحولت
الأحاديث الإذاعية إلى فضاء فلسفي، لا مجرد تسجيل لمواقف فكرية جاهزة.
من القضايا التي أخذت
حيزاً واسعاً في الحوارات علاقة بورخيس بالميتافيزيقا. فمنذ بداياته، كان يكتب عن المتاهات،
المرايا، والكتب اللامتناهية، بوصفها استعارات لمشكلة الوجود. في هذه الحوارات، يظهر
بوضوح أنّ الميتافيزيقا بالنسبة إليه لم تكن علماً نظرياً مجرداً، بل تجربة شخصية:
أن تعيش عالماً مزدوجاً، فيه الواقع والخيال على قدم المساواة. لقد صاغ بورخيس نوعاً
من “الميتافيزيقا الأدبية”، حيث تصبح الكلمة وسيلة لفحص احتمالات الوجود، كما في قصصه
الشهيرة مثل "مكتبة بابل" أو "حديقة المسارات المتشعبة".
أما الذاكرة، فقد حضرت
كقضية مركزية، ليس فقط لأنها تؤسس للهوية، بل لأنها تعكس مأساة الفقد. بورخيس الذي
فقد بصره، وجد نفسه يعتمد على ذاكرة داخلية أكثر من أي وقت مضى. لقد تحولت الذاكرة
لديه من سجل للأحداث إلى مختبر لإعادة تركيب العالم. في هذا السياق، يبدو صدى الفيلسوف
هنري برغسون واضحاً، الذي رأى أنّ الذاكرة ليست استعادة للماضي بقدر ما هي بناء مستمر
له. بالنسبة لبورخيس، الذاكرة شكل من أشكال الكتابة الداخلية، كتابة لا تُمحى بسهولة،
حتى عندما يتلاشى الجسد أو الحواس.
والكتابة بدورها لم
تكن عند بورخيس مجرد حرفة أو مهنة أدبية، بل امتداداً للذاكرة والزمن معاً. فيراري
يستفزه بالسؤال عن حدود الكتابة، فيجيب بورخيس بأن الكتابة محاولة يائسة للبحث عن الحقيقة،
لكنها يائسة بشكل جميل. فالنصوص، مهما بلغت من القوة، ليست سوى ظلال لحقيقة أعظم لا
يمكن الإمساك بها. هنا يلتقي مع تقليد طويل يمتد من أفلاطون إلى كافكا، حيث الكتابة
ليست وسيلة للشرح بقدر ما هي وسيلة للتلميح.
الميزة البارزة في
هذه الحوارات تكمن في كونها إذاعية. أي أنها كانت موجهة أولاً إلى جمهور عام، لا إلى
قراء متخصصين في الأدب أو الفلسفة. ومع ذلك، لم يتنازل بورخيس عن عمق أفكاره، بل استطاع
أن يحوّل الراديو إلى منبر للميتافيزيقا والشعر. يشبه الأمر ما كان يفعله سقراط في
شوارع أثينا: حوار مباشر، حيّ، لا يعتمد على النص المكتوب بل على الكلمة المسموعة.
هذا البعد الشفهي يضيف طابعاً إنسانياً للنقاشات، ويجعلها أقرب إلى المستمع العادي،
من دون أن تفقد قوتها الفكرية.
لا يمكن فهم هذه الحوارات
بمعزل عن السياق السياسي والثقافي للأرجنتين في الثمانينيات. كانت البلاد تخرج للتو
من دكتاتورية عسكرية دموية، والذاكرة الجماعية مثقلة بالاختفاءات والقتل. في هذا المناخ،
يصبح حديث بورخيس عن الزمن والذاكرة أكثر من مجرد تأمل فلسفي؛ إنه أيضاً شكل من أشكال
المقاومة الرمزية، لأن الذاكرة لا تعني فقط تذكر الماضي الفردي، بل أيضاً حماية الماضي
الجماعي من النسيان المفروض سياسياً.
إلى جانب ذلك، تعكس
الحوارات تواضع بورخيس الفكري. فهو لا يقدم نفسه كحكيم يملك الأجوبة، بل كقارئ أبدي
يواصل طرح الأسئلة. يعترف بجهله، يستشهد بنصوص الآخرين أكثر مما يستشهد بنفسه، ويعطي
الانطباع بأن الأدب العالمي مكتبة واحدة، يساهم فيها كل كاتب بكتاب واحد لا أكثر. هذا
الوعي الكوني يجعل من كتاب The Dialogues نصاً يتجاوز الحدود الوطنية والأدبية ليصبح وثيقة عن إنسانية مشتركة.
التحليل الأخير يقودنا
إلى أن الحوارات بين بورخيس وفيراري تقدم نموذجاً نادراً لما يمكن أن يكون عليه الحوار
الثقافي الحقيقي: ليس مناظرة لإثبات الرأي، ولا مقابلة لإنتاج تصريحات جاهزة، بل بحث
مشترك عن المعنى. وفي زمن تغلب فيه الخطابات السطحية على المنابر الإعلامية، تبدو العودة
إلى هذا الشكل من الحوارات درساً بليغاً. إنها تذكير بأن الصوت، الكلمة، والسؤال يمكن
أن يكونوا أدوات فعالة لمساءلة الوجود، وأن الأدب حين ينفتح على الفلسفة والميتافيزيقا،
يصبح أكثر قدرة على لمس جوهر الإنسان.
0 التعليقات:
إرسال تعليق