الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، سبتمبر 11، 2025

على تخوم النص: الأدب الرقمي التجريبي وسرديات التمرد: عبده حقي


في العقود الأخيرة، شهد الأدب تحولات جذرية بفعل الثورة الرقمية، فلم يعد النص حكراً على الورق، ولا بقي الكاتب سجيناً لشكل تقليدي واحد في السرد. لقد ولدت أمامنا مساحة جديدة يمكن تسميتها بـ"الهامش الرقمي"، حيث يلتقي الأدب بالتكنولوجيا لابتكار أشكال سردية تتجاوز حدود المألوف وتعيد صياغة العلاقة بين المؤلف والمتلقي. هذا الهامش لم يعد مجرد فضاء تقني، بل أصبح مختبراً جمالياً وفكرياً يفتح الباب أمام ما يسميه كاثرين هايلز في كتابها Electronic Literature: New Horizons for the Literary "الانزياحات النصية" التي تعيد التفكير في ماهية الأدب نفسه.

الأدب الرقمي التجريبي يقوم على دينامية التفاعل. القارئ لم يعد متلقياً سلبياً، بل صار مشاركاً في بناء النص، كما لو كان يعبر متاهة ذات أبواب متعددة، يختار منها ما يشاء، ليصوغ سرديته الخاصة. وفي ذلك تكسير واضح لسلطة المؤلف التقليدي، واستعادة لدور القارئ الذي طالما حلم به رولان بارت في مقالته الشهيرة موت المؤلف. هذا التداخل بين الحرية واللعب يخلق سرداً أقرب إلى "التمرد الرمزي"، حيث يتحدى النص قواعد الخطية والزمن، ويتلاعب بالصور والروابط والفيديوهات ليبني تجربة لا تشبه غيرها.

وليس غريباً أن نجد هذه الظواهر في أعمال أدباء رقميين عرب ومغاربة أيضاً، ممن استلهموا روح التجريب ودمجوها بتراثهم الشعري والسردي. فالتجارب التي نشأت ضمن ما يسمى بـ"الأدب التفاعلي" أو "النصوص التشعبية" لا تكتفي بكسر الشكل، بل تطرح أيضاً أسئلة سياسية وثقافية. فهي، كما يلاحظ ماثيو كيرشنباوم في كتابه

 Mechanisms: New Media and the Forensic Imagination، ليست مجرد ابتكار تقني، بل تعبير عن "رغبة ثقافية" في إعادة التفكير بالمعنى، بالذاكرة، وبالهوية في عصر الشاشات.

هذه النصوص تذكّرنا بأهمية التمرد على المركز والهامش معاً. فإذا كانت الرواية الكلاسيكية قد قامت على سيطرة سردية واحدة، فإن الأدب الرقمي يمنح الهامش صوتاً، ويفتح مجالاً لأصوات مهمشة تاريخياً لتدخل فضاء الكتابة من بوابة جديدة. يمكن للقارئ أن يتنقل بين نصوص تعيد الاعتبار للهويات المهمشة، للقصص الصغيرة، للصور التي لم يكن لها مكان في المدونة الكبرى للأدب. وهنا يتجلى البعد السياسي لهذا الأدب، حيث يصبح السرد ذاته فعلاً مقاوماً يعيد تشكيل العلاقة بين السلطة والمعنى.

الأدب الرقمي التجريبي يظل إذن مشروعاً مفتوحاً. فهو، مثل نهر يفيض على ضفتيه، لا يتوقف عند شكل واحد، بل يتدفق نحو احتمالات لا نهائية. وربما هذا ما يفسر وصف بعض النقاد له بأنه "أدب ما بعد الحدود". ففي زمن أصبحت فيه الخوارزميات تحدد حتى أنماط قراءتنا، يأتي هذا الأدب ليعلن أن النص ما يزال قادراً على المقاومة، وأن الحكاية، مهما تغيرت وسائطها، ستظل سلاحاً للحرية، ومجالاً لاختبار ما يسميه والتر بنيامين "إمكانات السرد في مواجهة سلطة الزمن".

بهذا المعنى، فإن الأدب الرقمي التجريبي ليس مجرد تجريب عابر، بل هو ممارسة نقدية وجمالية في آن واحد، تنحت لنفسها مكاناً في قلب الثقافة المعاصرة. وكما أن الهامش أحياناً يصبح مرآة للمركز، فإن هذه السرديات المتمردة تكشف عن مستقبل للأدب أكثر انفتاحاً، وأكثر قدرة على مساءلة العالم، بما فيه من صور وأصوات وصراعات، وبما يحمله من أحلام الحرية والتمرد.

0 التعليقات: