الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، سبتمبر 12، 2025

أساطير رقمية: الواقعية السحرية في العوالم الافتراضية: عبده حقي


لم يعد حضور الواقعية السحرية مقصوراً على صفحات الأدب اللاتيني أو على عوالم ماركيز وأليخو كاربنتييه، بل تسللت هذه الحساسية السردية إلى الفضاء الرقمي، حيث تتقاطع الحكاية بالبرمجة، والخيال بالواجهة البصرية، في تشكّل جديد لما يمكن أن نسميه "الأسطورة الرقمية".

إن العوالم الافتراضية – من ألعاب الفيديو التفاعلية إلى عوالم الميتافيرس – باتت مختبراً جديداً تُستعاد فيه تقاليد الواقعية السحرية بوسائط تقنية غير مسبوقة.

في فضاء الإنترنت، تختلط الواقعية بالسحر كما لو كانت الحياة اليومية تُروى بمجهر مشروخ أو مرآة مائية، فالمستخدم يعيش تجارب قد تبدو واقعية من حيث المظهر التقني، لكنها مُطعّمة بجرعات من الخوارق والتلاعب بالزمن والذاكرة. يكفي أن نتأمل في ظاهرة الألعاب السردية مثل Disco Elysium أو What Remains of Edith Finch  لنرى كيف تتحول الحكاية إلى بنية رقمية تستوعب السحر باعتباره جزءاً عضوياً من تجربة اللعب، لا مجرد إضافة زخرفية.

هنا يظهر الفارق بين الواقعية السحرية في الأدب وبين "الفابولية الرقمية". ففي النصوص الأدبية، كما في روايات ماركيز أو الطاهر بن جلون، يكون السحر متجذراً في تقاليد ثقافية وروائية، بينما في البيئات الافتراضية يصبح السحر مشفراً ومبرمجاً، أي محكوماً بخطوط كود تعيد صياغة الخيال داخل قوانين تفاعلية.

إن هذه النقلة تفتح المجال أمام نقاش فلسفي حول حدود "المصداقية" في الفضاء الرقمي: هل السحر هنا انعكاس رمزي لحاجات الإنسان إلى الحلم، أم أنه مجرد واجهة تقنية تستثمر الغرائبية لشدّ انتباه المستخدم؟

اللافت للانتباه أن هذا الشكل من الواقعية السحرية الرقمية لا يعمل في فراغ، بل يستمد مشروعيته من تاريخ طويل من المزج بين الواقعي والمتخيل في الثقافة. فالأنثروبولوجيا الرقمية تكشف أن الإنترنت نفسه يُنظر إليه كفضاء أسطوري، حيث يلتقي المجهول بالمرئي، كما تشير دراسات شوشانا زوبوف حول "رأسمالية المراقبة" إلى أن التجربة الرقمية ليست حيادية، بل مشبعة بالرموز والقوى الخفية.

ومن جهة أخرى، يرى باحثون مثل ماثيو كيرشنباوم في كتابه Mechanisms أن النصوص الرقمية نفسها تملك "جسدانية" تجعلها قادرة على استضافة الخوارق داخل مادتها البرمجية.

ولعل المثير أن هذه العوالم الافتراضية تمنح المستخدم فرصة أن يعيش التجربة السحرية كفاعل داخل النص. في الميتافيرس، مثلاً، يمكن للذات أن تتجسد في صورة تنين أو طائر أو ظل، وأن تنتقل عبر الزمن كما لو كان خطاً مرسوماً على شاشة. إن التلاعب بالهويات الرقمية، وتفكك الحدود بين الأنا والآخر، يذكّرنا بما كتبته دونا هاراواي في

 Staying with the Trouble  حول "الكائنات الهجينة" التي تعيد صياغة علاقتنا بالواقع.

إذن نحن أمام ظاهرة أدبية-رقمية جديدة لا تكتفي باستعارة جماليات الواقعية السحرية، بل تعيد كتابتها بلغة الكود والخوارزميات. إنها محاولة لإعادة السحر إلى العالم الحديث عبر وسائط رقمية، وكأن الفضاء الافتراضي صار هو الوريث الشرعي لأحلام الواقعية السحرية التي أرادت أن تخلط الممكن بالمستحيل في نسيج واحد. وبينما يرى بعض النقاد أن هذه النزعة ليست سوى استهلاك تجاري للسحر القديم في قوالب تكنولوجية، فإن آخرين يؤكدون أنها تعبير حقيقي عن حاجة الإنسان المعاصر إلى بناء أساطير جديدة تناسب زمن الإنترنت.

في النهاية، يبدو أن الواقعية السحرية الرقمية ليست مجرد موضة عابرة، بل هي تعبير عن تحوّل أعمق في العلاقة بين الإنسان والعالم. فإذا كان الأدب التقليدي قد ابتكر لغة لالتقاط الغرائبي في الحياة اليومية، فإن الرقمنة اليوم تبتكر فضاءً جديداً يتيح للخيال أن يتحقق حرفياً، ويجعل من كل تجربة افتراضية نصاً سحرياً يكتبه الإنسان ويعيشه في الوقت نفسه.

خاتمة نقدية.

إن المقارنة بين "الفابولية الرقمية" والواقعية السحرية تكشف عن تحولات عميقة في طبيعة السرد والتمثيل. ففي الواقعية السحرية التقليدية، كما تتجلى في أعمال ماركيز أو إيزابيل ألليندي، يتعايش الواقعي والأسطوري داخل النص باعتبارهما تجسيداً لتاريخ ثقافي وذاكرة جماعية، بينما في الفابولية الرقمية يصبح السحر نتاجاً لمحاكاة simulation بالمعنى الذي صاغه جان بودريار، أي إعادة إنتاج العلامات والرموز على نحو يطمس الحدود بين الواقع والخيال. فالافتراضي هنا لا يحاكي العالم فحسب، بل يخلقه من جديد في صورة أكثر كثافة وإغراءً، ما يجعل "الواقعية" ذاتها عرضة للتبخر داخل لعبة المظاهر الرقمية.

وعلى صعيد آخر، يمكن استحضار مفهوم "التناص" عند ميخائيل باختين لفهم الكيفية التي تشتبك فيها الفابولية الرقمية مع الواقعية السحرية. فالنصوص الرقمية لا تنشأ في عزلة، بل تبني عوالمها من خلال إعادة تدوير نصوص سابقة – أدبية، أسطورية، أو بصرية – لتوليد تجربة هجينة تتجاوز الأصل. هنا لا يكون السحر استعادة لخيال تقليدي فحسب، بل إعادة إنتاج متواصلة عبر خيوط التفاعل الشبكي. وبذلك تتبدى الفابولية الرقمية بوصفها فضاءً 

0 التعليقات: