الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، سبتمبر 15، 2025

الجماليات بين الفلسفة والتجربة الإنسانية: عبده حقي


لم يكن علم الجماليات في يوم من الأيام مجرد فرع ثانوي في الفلسفة، بل كان وما يزال سؤالاً مركزياً يلامس جوهر الوجود الإنساني. فمنذ أن طرح الإغريق سؤال الجمال، تباينت الإجابات بين اعتباره محاكاة للطبيعة كما عند أفلاطون، أو وسيلة للتطهير النفسي كما رأى أرسطو. ومع مرور العصور، ظلّ هذا الحقل الفكري يتجدد، حاملاً معه هموم الفلسفة، وأسئلة الفن، وتعقيدات الحياة اليومية.

الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط قدّم منعطفاً حاسماً في كتابه نقد ملكة الحكم (1790)، حيث نظر إلى الحكم الجمالي باعتباره حُكماً "ذوقياً" يحمل طابعاً ذاتياً، لكنه في الوقت نفسه يطمح إلى الكونية. بالنسبة له، التجربة الجمالية ليست خاضعة لمصلحة أو منفعة، بل هي متعة خالصة تجعلنا نرى العالم وكأننا جزء من نظام متناغم بين العقل والطبيعة. هذا الطرح جعل الجماليات وسيطاً بين العقل النظري والعقل العملي، وبين الطبيعة والحرية.

أما آرثر شوبنهاور فقد ذهب أبعد من ذلك، معتبراً التجربة الفنية لحظةً نادرة نتحرر فيها من إرادة الحياة المليئة بالصراع والمعاناة. في الفن، خصوصاً في الموسيقى، يجد الإنسان مخرجاً مؤقتاً من دائرة الألم، إذ يعيش لحظة تأملية خالصة حيث يغيب الأنا الفردي ليذوب في الكوني.

مع بدايات القرن العشرين، قدّم الفيلسوف الأميركي جون ديوي رؤية جديدة في كتابه الفن خبرة (1934)، حيث أعاد ربط الجمال بالحياة اليومية. بالنسبة له، التجربة الجمالية ليست امتيازاً للفنانين، بل هي جزء من تفاعلنا مع العالم: في بناء الجسور، في إعداد وجبة، أو حتى في تذوق لحظة صمت. هكذا أصبحت الجماليات جزءاً من التجربة الإنسانية الأوسع، لا مجرد تأمل نخبوي.

في المقابل، لم ينفصل التراث العربي الإسلامي عن سؤال الجمال. فمقولة النبي ﷺ: "إن الله جميل يحب الجمال" تعكس رؤية تجعل من الجمال قيمة وجودية وأخلاقية في آن واحد. وقد صاغ الفلاسفة المسلمون، مثل الفارابي وابن سينا، نظريات تربط الجمال بالانسجام والاعتدال والتناسب، معتبرين أن الفن وسيلة لارتقاء الروح نحو المطلق.

اليوم، لم يعد الحديث عن الجمال مقصوراً على اللوحات والأشعار، بل امتد إلى مجالات جديدة: العمارة الحديثة، الموضة، السينما، والإنتاج الرقمي. ومع دخول الذكاء الاصطناعي والفنون الرقمية إلى هذا المشهد، عاد السؤال الفلسفي بقوة: هل يمكن للآلة أن تنتج جمالاً أصيلاً؟ أم أن الإبداع يظل حكراً على الوعي البشري؟

إنّ الجماليات المعاصرة لم تعد تطرح فقط سؤال "ما هو الجميل؟" بل تتساءل عن علاقتها بالقيم، بالسياسة، وبالاقتصاد. فالفن أصبح أداة احتجاج ومقاومة، كما في فن الشارع أو السينما الملتزمة، وأضحى الجمال مساحةً للصراع بين الذوق الفردي وضغوط السوق والعولمة.

في المحصلة، يظل علم الجماليات فضاءً مفتوحاً للتأمل والاختلاف. إنه علم يتقاطع مع الفلسفة، علم النفس، وعلم الاجتماع، ليمنحنا في النهاية بوصلة لفهم كيف نعيش، وكيف نحب، وكيف نقاوم القبح بالعقل والروح معاً.

مراجع مقترحة للتوسع:

إيمانويل كانط، نقد ملكة الحكم (Critique of Judgment).

آرثر شوبنهاور، العالم إرادة وتمثّل (The World as Will and Representation).

جون ديوي، الفن خبرة (Art as Experience).

عبد الرحمن بدوي، الزمان الوجودي.

علي شريعتي، الجمال والفن في الإسلام.

0 التعليقات: