حين نقترب من عالم جورج بيريك، لا نكاد نميز بين الكاتب والراصد، بين من يصوغ الكلمات ومن يعاين النبض الخفي للحياة. إن صورته كـ"طبيب حيّ" و"كاتب بوليسي" ليست مجرد استعارات أدبية، بل هي مفاتيح لقراءة سرّ الكتابة لديه، ذلك السر الذي يجعل من النصوص مرايا معقدة تعكس في آن واحد هشاشة الوجود وصلابته.
أن ننظر للكاتب طبيباً للحيّ يعني أنه يمارس الكتابة كما لو كانت إصغاءً دائماً إلى أصوات الحياة المتناثرة. الطبيب يعرف كيف يقرأ الجسد، والكاتب يعرف كيف يقرأ الشارع، المقهى، الدرج، أو حتى صمت الغرفة. بيريك لم يكن يلاحق الأحداث الكبرى، بل كان يتلذذ بجمع الفتات: قوائم، أشياء، تفاصيل صغيرة. وكأن الكتابة نفسها صارت عيادة سرّية للوجود، يعالج بها الكاتب خوفه من النسيان، ويمنح القارئ وصفةً ضد العدم.
لكن بيريك، في الوجه
الآخر، لم يكتفِ بالإنصات. كان أيضاً محققاً ينسج من التفاصيل شبكة معقدة، شبيهة بحبكات
الرواية البوليسية. إلا أن الجريمة التي يطاردها ليست جريمةً في الشارع، بل هي جريمة
الزمن ضد الذاكرة، جريمة الحياة ضد نفسها. كل شقة في رواية
La Vie mode d’emploi تبدو
كصندوق مغلق، كل شخصية كخيط مهمل، وكل فراغ كقرينة محتملة.
بهذا المعنى يصبح القارئ
شريكاً في التحقيق: لا يبحث عن القاتل، بل عن معنى يختبئ خلف فوضى العالم.
في هذه الثنائية –
الإصغاء كطبيب والبحث كلغز بوليسي – تتجلى فلسفة بيريك. الكتابة عنده ليست وصفاً للحياة
فحسب، بل محاولة لبناء خريطة سرية للواقع. ما يبدو عادياً هو في العمق علامة، وما يبدو
ثانوياً هو مركز اللعبة. هنا يتحد الواقعي بالمتخيل، وتتحول تفاصيل اليومي إلى إشارات
تقودنا نحو أسئلة كبرى عن الزمن، الذاكرة، والموت.
قد يكون الدرس الأعمق
من هذه القراءة أن الكاتب العربي، وهو يكتب من أحياء المغرب أو المشرق، يمكن أن يجد
في بيريك مرآةً ملهمة. أن يتقمص دور الطبيب وهو يصف نبض الحياة في سوق شعبي أو زقاق
قديم، وأن يتقمص في الوقت ذاته دور المحقق وهو يفتش عن المعنى في متاهة السياسة والتاريخ.
إن الكتابة، مثل الطب والتحقيق، هي شكل من أشكال المقاومة ضد الغياب.
بيريك، في النهاية،
لم يكن يسعى إلى أن يعلّمنا كيف نعيش، بل كيف نصغي ونفتش. نصوصه مثل عيادة بلا جدران،
ومثل ملف بوليسي بلا نهاية. فيها نرى أن الحياة ليست سوى سلسلة من القرائن الصغيرة،
وأن الكتابة هي الوسيلة الوحيدة لإعادة تركيبها، حتى لو ظلّ اللغز مفتوحاً إلى الأبد.
0 التعليقات:
إرسال تعليق