الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، سبتمبر 15، 2025

المساعدات الافتراضية وإعادة تشكيل أنماط استهلاك الإعلام: عبده حقي


لم يعد اختيار ما نشاهده أو نقرأه أو نستمع إليه شأناً فردياً صرفاً، بل أصبح خاضعاً إلى وساطة تقنية جديدة تتمثل في المساعدات الافتراضية التي تتسلل تدريجياً إلى حياتنا اليومية. هذه البرمجيات، تحولت إلى فاعل مؤثر يوجّه مسارات استهلاك الإعلام وفق خوارزميات دقيقة، غالباً غير مرئية للمستخدم.

في زمن الطفرة الرقمية، أصبح الإعلام متشابكاً مع تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تقرأ أنماط تفضيلاتنا، وتعيد تشكيلها من خلال اقتراحات تلقائية. فكما يشير شوشانا زوبوف في كتابها عصر الرأسمالية الرقابية، فإن البيانات الشخصية قد تحولت إلى مورد اقتصادي يستثمر في إعادة توجيه خيارات الأفراد. بهذا المعنى، يغدو المساعد الافتراضي وسيطاً مزدوجاً: يسهّل الوصول إلى المحتوى، لكنه في الآن نفسه يرسم حدود ما يمكن أن نستهلكه.

وتبرز هنا إشكالية الحرية والاختيار. فالمستخدم، وهو يظن أنه يبحر بحرية في فضاء لا نهائي من الأخبار والفيديوهات والموسيقى، يجد نفسه في واقع الأمر محكوماً بدائرة مقترحات تُعيد إنتاج ذوقه السابق وتضيّق أفقه المعرفي. هذه العملية أشبه بمرآة لا تعكس سوى ما سبق أن أحببناه، كما لو أنّ الذكاء الاصطناعي يحولنا إلى أسرى لأهوائنا الماضية. وقد رصدت تقارير صحفية في نيويورك تايمز ولوموند خلال السنوات الأخيرة هذا الميل نحو "فقاعات التصفية" التي تعيد إنتاج قناعات المستخدم بدل دفعه إلى اكتشاف الجديد والمختلف.

لكن الصورة ليست قاتمة تماماً. فالمساعدات الافتراضية قادرة أيضاً على لعب دور تحريري إيجابي. عبر خوارزميات مصممة بعناية، يمكنها أن توسّع الأفق بدلاً من تضييقه، فتقترح مقالات أكاديمية أو وثائقيات نقدية تتجاوز المألوف.

التجارب الحديثة في منصات البودكاست أو الصحافة الرقمية أظهرت أنّ الذكاء الاصطناعي يمكن أن يعمل كأداة لتنوير الجمهور، شريطة أن تُدمج فيه معايير التنوع والتعددية. وهو ما يذكّرنا بآراء الباحثة كاثرين هايلز حول "الأدب الإلكتروني"، حيث شددت على أن التفاعل مع النصوص الرقمية يجب أن يفتح إمكانات جديدة للفكر لا أن يحاصرها.

الأمر إذاً أشبه بسيف ذي حدّين. فإذا تُركت المساعدات الافتراضية تحت رحمة الشركات التي تستثمر في الإعلانات الموجهة، فإنها ستتحول إلى قنوات تكرس الاستهلاك السطحي وتعيد إنتاج الانقسام الاجتماعي. أما إذا أعيد تصميمها وفق مبادئ الشفافية والمسؤولية، فإنها قد تصبح أداة معرفية قادرة على تقريب الأفراد من مصادر إعلامية أكثر توازناً وعمقاً. في هذا السياق، يتزايد النقاش في الدوائر الأكاديمية والإعلامية حول ضرورة تشريعات تحمي المستخدم وتُلزم الشركات بكشف معايير التوصية، وهو نقاش يعيد إلى الأذهان معارك سابقة خاضها المجتمع الدولي مع منصات التواصل الاجتماعي بشأن الأخبار الزائفة.

في النهاية، يمكن القول إن المساعدات الافتراضية لم تعد مجرد تقنية حيادية، بل فاعل ثقافي يعيد صياغة العلاقة بين الفرد والإعلام. وكما كان اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر نقطة تحول في تاريخ المعرفة، قد يغدو الذكاء الاصطناعي اليوم مرادفاً لثورة جديدة تعيد تعريف معنى القراءة والمتابعة والاستماع. والسؤال المفتوح أمامنا ليس هل ستؤثر هذه الأدوات في اختياراتنا الإعلامية، بل كيف نعيد نحن صياغة علاقتنا بها بحيث تتحول من آلية توجيه خفي إلى شريك نقدي في رحلة البحث عن المعرفة.

0 التعليقات: