الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، سبتمبر 21، 2025

الذكاء الاصطناعي الأوروبي يطرق إفريقيا من بوابة المغرب: عبده حقي


أعلنت شركة "ميسترال" الفرنسية للذكاء الاصطناعي عن اختيار المغرب قاعدة لانطلاقها نحو القارة الإفريقية. الخبر في ظاهره يحمل وعوداً براقة عن التطوير والابتكار، لكن في جوهره يكشف عن محاولة جديدة لإعادة رسم خريطة الهيمنة الأوروبية على إفريقيا، هذه المرة بأدوات رقمية بدلاً من البنادق والمدافع.

الشراكة التي أبرمتها "ميسترال" مع وزارة الانتقال الرقمي في المغرب تبدو خطوة "ذكية"، لكنها في الحقيقة تحمل أبعاداً استراتيجية مقلقة. فالشركة لم تُنشأ لتطوير التعليم أو دعم الثقافة المحلية، بل لفرض نماذجها التكنولوجية ولغاتها وقيمها الرقمية على أسواق لا تزال هشة من الناحية القانونية والتنظيمية.

ومثلما كانت القوى الاستعمارية تبني السكك الحديدية والموانئ لخدمة مصالحها، ها هي اليوم تبني مراكز بيانات وخدمات سحابية لتأمين السيطرة على مورد القرن الجديد: البيانات.

اختيار المغرب ليس صدفة. فالبلاد تشكل نقطة تماس بين أوروبا وإفريقيا، وتتمتع باستقرار نسبي يجعلها "منصة مثالية" لتصدير المشاريع نحو القارة. لكن السؤال: هل سيكون المغرب شريكاً متساوياً في هذه المعادلة، أم مجرد بوابة عبور لمخططات أوروبية تستغل حاجات القارة؟

إن الحديث عن "خدمات موجهة لإفريقيا" يبدو في ظاهره تعاونياً، لكنه يخفي نزعة استعمارية قديمة: إفريقيا كسوق استهلاكية ضخمة، ومجال مفتوح لتجارب الغرب التكنولوجية، بينما تبقى لغات الشعوب وثقافاتها خارج أولويات الشركات العملاقة.

أن تجمع "ميسترال" تمويلاً بقيمة 1,7 مليار يورو، وترتفع قيمتها السوقية إلى أكثر من 11 مليار يورو، فهذا دليل على حجم الرهانات التي تحيط بالذكاء الاصطناعي. لكن هذه الأموال الضخمة ليست موجهة لحل مشاكل البطالة، أو لتطوير البنية التحتية الإفريقية، بل لتأمين مواقع نفوذ رقمية تمكّن الشركات الغربية من التحكم في مستقبل الحكومات والشعوب.

والشراكة مع NVIDIA الأميركية ليست مجرد تعاون تقني، بل هي تأكيد أن المعركة الحقيقية تدور حول من يمتلك القدرة على التحكم في الموارد الرقمية والمعالجة الفائقة، تماماً كما كانت المعركة تدور حول من يسيطر على النفط والغاز.

الخطاب الذي يقدّم هذه الخطوة بوصفها "فرصة للتدريب ونقل المعرفة" ليس سوى قناع ناعم لعملية استلاب رقمية. فالتجارب السابقة أثبتت أن الشركات الكبرى لا تستثمر في إفريقيا إلا لتأمين مصالحها، حتى ولو كان ذلك على حساب سيادة الدول وخصوصية الشعوب.

البيانات الشخصية، اللغات الإفريقية، التراث الثقافي، كلها معرضة للذوبان داخل قوالب لغوية وثقافية غربية، تُعيد إنتاج المركزية الأوروبية بشكل جديد.

إذا لم تضع الدول الإفريقية، والمغرب في مقدمتها، استراتيجية صارمة للسيادة الرقمية، فإن هذه المشاريع قد تتحول إلى نسخة محدثة من "التبعية الاستعمارية"، حيث تظل القارة مجرد مستهلكة لتقنيات لم تُصمم لواقعها ولا لاحتياجاتها، بل لتعزيز نفوذ القوى الكبرى.

إن بناء مراكز بيانات أو إطلاق خدمات الذكاء الاصطناعي ليس بحد ذاته مكسباً إذا لم يُقترن بقدرة على التحكم في الخوارزميات، في إدارة البيانات، وفي رسم القوانين التي تحمي الشعوب من الهيمنة الرقمية.

ما يحدث اليوم هو لحظة فارقة: إما أن يتحول المغرب إلى قاطرة إفريقية تصوغ نموذجاً مستقلاً للذكاء الاصطناعي يخدم شعوب القارة، أو ينزلق إلى دور الوسيط في مشروع أوسع هدفه إعادة إنتاج التبعية الرقمية لإفريقيا تحت رايات جديدة.

فهل سنرى في السنوات المقبلة نهضة رقمية إفريقية، أم أننا أمام استعمار جديد يطلّ برأسه من شاشات الحاسوب والخوارزميات الذكية؟

0 التعليقات: