لم تعد السخرية حِكراً على ريشة الرسامين أو حدة أقلام الصحفيين، بل تجد نفسها اليوم جسداً رقمياً جديداً يُشكّله الذكاء الاصطناعي عبر الكاريكاتور التحريري المولّد آلياً. هذا التحول يعكس تغيراً عميقاً في أدوات التعبير السياسي والاجتماعي، حيث تتحول الخوارزميات إلى فنانين جدد قادرين على التقاط المفارقات ورسم صور هجائية تكاد تُشبه ما كان يصنعه كبار الكاريكاتوريين من أمثال ناجي العلي أو بلانتو، وإن بأسلوب رقمي مختلف.
إن جوهر الكاريكاتور
التحريري يقوم على المبالغة الرمزية والتكثيف البصري من أجل فضح التناقضات السياسية
والاجتماعية. لكن إدخال الذكاء الاصطناعي على هذا الفن يفتح الباب أمام أسئلة أخلاقية
وجمالية في آن واحد: هل يمكن لخوارزمية أن تفهم بعمق حس السخرية المرتبط بسياق ثقافي
وسياسي محدد؟ أم أن ما تنتجه مجرد محاكاة باردة لمخزون صور وتعبيرات سبق أن خزنتها
في قواعد البيانات؟ هذه الإشكالية تذكر بما كتبه جان بودريار عن المحاكاة (Simulacres et Simulation)، حيث يذوب الحد الفاصل بين
الأصل والنسخة، ليصبح ما نراه صورة عن صورة، بلا مرجع ثابت.
في المقابل، هناك من
يرى أن هذه الأدوات قد تعيد للكاريكاتور بريقه بعد تراجع الصحافة الورقية التي كانت
فضاءه الطبيعي. فالكاريكاتور الاصطناعي يمكن أن ينتشر بسرعة البرق عبر الشبكات الاجتماعية،
وأن يتكيف مع القضايا الطارئة في ظرف ثوانٍ. على سبيل المثال، بعد نشر تقارير الغارديان ونيويورك تايمز حول محاكاة الصور الساخرة للانتخابات الأميركية
عبر نماذج الذكاء الاصطناعي، ظهر جدل واسع حول قدرة هذه الرسوم على التأثير في الرأي
العام أكثر من المقالات الطويلة، نظراً لقوة الصورة وسرعة تلقيها.
غير أن هذا الانفتاح
الرقمي يحمل في طياته مخاطر التضليل. فالسخرية قد تنقلب إلى أداة بروباغندا، حيث يمكن
للقوى السياسية أن تُوجّه خوارزميات الرسم الآلي لتوليد كاريكاتورات تهاجم خصومها أو
تلمّع صورتها. وهو ما يعيد إلى الأذهان النقاش الذي أثاره شوشانا زوبوف في كتابها عصر
رأسمالية المراقبة حول كيف يمكن للتقنيات أن تُسخّر لخدمة أجندات السيطرة بدل أن تكون
أدوات للتحرر.
لكن رغم هذه المخاوف،
فإن الكاريكاتور الاصطناعي قد يصبح مختبراً جمالياً جديداً يتيح تجريب أشكال هجائية
لم يكن بمقدور الرسام التقليدي إنجازها. فالخوارزميات تستطيع دمج الأسلوب الدالي السريالي
مع الحدّة السياسية في رسم واحد، أو إنتاج سلسلة رسوم تُظهر نفس الحدث بزوايا مختلفة
خلال لحظات. هنا يصبح الكاريكاتور أقرب إلى "شعر بصري" متجدد، يتجاوز حدود
التقليد إلى ابتكار صور غير متوقعة، كما لو أنه يحقق حلم أندريه بريتون في جعل اللاوعي
يتجسد مباشرة على الورق، لكن هذه المرة على الشاشة.
إن مستقبل هذا الفن
المولّد آلياً سيعتمد على كيفية تنظيم العلاقة بين التقنية والوعي النقدي. فالسخرية،
حتى لو صاغتها خوارزمية، لا تفقد معناها ما دامت تثير أسئلة، وتفتح مجالاً للنقاش،
وتعيد للخيال دوره في مساءلة السلطة والواقع. ولعل أبرز تحدٍّ أمام الباحثين والنقاد
اليوم هو وضع أطر نظرية جديدة لهذا التزاوج بين الذكاء الاصطناعي والفن الساخر، تماماً
كما حاول والتر بنجامين في مقالته عن "العمل الفني في عصر إعادة الإنتاج الآلي"
أن يفهم أثر التقنية على القيمة الجمالية والمعنى.
بهذا المعنى، قد لا
يكون الكاريكاتور الاصطناعي بديلاً عن الكاريكاتور التقليدي، بل امتداداً له في فضاء
جديد. إنه مرآة ساخرة صارت تعكس وجوهنا عبر خوارزميات، لكن خلف كل صورة يبقى السؤال:
من يضحك على من؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق