يُعتبر النص الفائق (Hypertext Fiction) أحد أكثر التجارب الأدبية ارتباطا بروح العصر الرقمي، حيث لم يعد النص حقلًا مغلقًا أو بناءً مكتملًا، بل أصبح فضاءً مفتوحًا، تتقاطع فيه الكلمات مع الصور والروابط، وتُبنى فيه الحكاية على التعدد والتشظي. في هذا السياق، تبرز الجمالية لا بوصفها وعدًا بالخلود أو سعيًا نحو النصّ الكلاسيكي المتماسك، بل باعتبارها أثرًا عابرًا، تجربة لحظية قد تتلاشى بقدر ما تمنح من دهشة وانخطاف.
هذه الطبيعة العابرة
للأدب الفائق النص تُعيد التفكير في مفهوم الجمال الأدبي ذاته، إذ لم يعد الجمال قائمًا
على الاستمرارية الزمنية أو على التلقي المتكرر، وإنما على أثرٍ قصير العمر يشبه انكسار
الضوء على سطح الماء. كما أن النص الفائق يضع القارئ في مواجهة جديدة مع ذاته، فهو
لم يعد متلقيًا سلبيًا، بل مشاركًا في إنتاج المعنى، يُحدّد مساره بين روابط لا متناهية،
وقد يفقد الخيط السردي كما يفقد المسافر طريقه في مدينة بلا خرائط، لكنه يجد في هذا
التيه نفسه تجربة جمالية لا تقل عمقًا عن اكتمال النص.
لقد تناول جورج لاندو (George Landow) في كتابه المرجعي
Hypertext: The Convergence of Contemporary
Critical Theory and Technology (1992) هذه الإشكالية،
مشيرًا إلى أن النص الفائق يحقق "التحرر" من السرد الخطي، ويُدخل القارئ
في تجربة أقرب إلى المتاهة منها إلى الطريق المستقيم. وهنا يتحول النص إلى فضاء يتقاطع
فيه النقد الأدبي مع التكنولوجيا، حيث يصبح كل رابط (Link) بمثابة
بابٍ مفتوح على سرديات أخرى، تزعزع اليقين وتفتح المجال لتعدد المعاني.
إن هذا الطابع المتشظي يُذكّر بمفهوم "النص المفتوح" كما طرحه أمبرتو إيكو (Umberto Eco) في كتابه Opera Aperta (1962)، حيث لا يعود النص ملكًا لكاتبه وحده، بل يصبح مشروعًا جماعيًا يشارك القارئ في إعادة بنائه. وبذلك، فإن الأدب الفائق النص يُجسّد ميدانيًا أطروحات نظرية ما بعد البنيوية التي سعت إلى تفكيك مركزية المؤلف، وإلى إعلاء دور القارئ باعتباره "منتجًا للمعنى" كما أكد رولان بارت في مقاله الشهير موت المؤلف.
لكن خصوصية النص الفائق تكمن في أنه ليس مجرد امتداد لنظريات
الأدب، بل هو أيضًا رهين التقنية. يشير ماثيو كيرشنباوم في كتابه Mechanisms: New
Media and the Forensic Imagination (2008) إلى أن
النصوص الرقمية تُولد في بيئة قابلة للانمحاء، وأن قيمتها الجمالية تتضاعف كلما ارتبطت
بالهشاشة الزمنية. فالنص الفائق يعيش تحت رحمة تحديثات البرمجيات وتغير المنصات، بحيث
قد تصبح بعض الأعمال الأدبية التي ظهرت في التسعينيات اليوم غير قابلة للقراءة إلا
عبر محاكيات خاصة.
وقد أثارت صحيفة ذي
نيويورك تايمز في تحقيق
صحفي (2024) مسألة أرشفة الأدب التفاعلي، مؤكدة أن عددًا كبيرًا من النصوص الفائقة
النص مهدد بالاندثار التقني، ما لم تُتخذ إجراءات للحفظ الرقمي. هذا المصير يجعل من
الأدب الفائق نصًا أقرب إلى الفنون الأدائية أو الشعر الشفوي، حيث تُبنى جماليته على
الفناء لا البقاء، على اللحظة التي تُعاش ثم تختفي، كزهرة برية تُقطف قبل أن تذبل.
إن هذه الجمالية العابرة
لا تُفهم فقط باعتبارها خصوصية تقنية، بل هي أيضًا فلسفة تُعيد النظر في علاقتنا بالزمن
والمعنى. ففي كتابه" البقاء في الاضطراب" Staying with the Trouble (2016)، ترى دونا هاراواي أن عصرنا
يقوم على سرديات متشابكة لا تسمح بيقينٍ مستقر، وأن الانخراط في "اللايقين"
هو السبيل لمواجهة تعقيدات الواقع. بهذا المعنى، فإن الأدب الفائق النص ليس مجرد ابتكار
تقني، بل هو تمرين وجودي على الإقامة في المؤقت، وعلى تقبّل التعددية بدلًا من البحث
عن الحقيقة النهائية.
وإذا قارنّا هذا البعد
الفلسفي بالتجربة الصوفية في التراث العربي، نجد تشابهًا لافتًا: فالتجربة الصوفية
تقوم على الفناء والانخطاف، على الزوال كطريقٍ إلى الكشف، تمامًا كما يقوم الأدب الفائق
النص على التيه والتشظي، وعلى الجماليات التي لا تُمسك إلا لتفلت. وكما أن "ألف
ليلة وليلة" قدّمت نصًا مفتوحًا لا نهائيًا قابلًا للامتداد، فإن الأدب الفائق
النص يعيد إنتاج هذا المنطق في زمنٍ رقمي، حيث الروابط تحل محل الحكايات المتفرعة.
على الرغم من أن التجربة
العربية مع الأدب الفائق النص ما تزال محدودة، فقد ظهرت منذ بداية الألفية محاولات
لكتابة نصوص تفاعلية بالعربية، وإن كانت أغلبها تجارب فردية لم تصل إلى مستوى التأثير
الواسع.
بعض الباحثين العرب،
مثل الناقدة زهور كرام في كتابها الأدب الرقمي: أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيمية
(2013)، رأت في الأدب الفائق النص مجالًا لطرح أسئلة الهوية واللغة في الفضاء الرقمي.
فالنص الفائق العربي لا ينفصل عن قضايا التلقي في مجتمع يعاني من فجوة رقمية، وعن إشكاليات
الحرف العربي نفسه في بيئة تقنية صُممت أساسًا للغات أخرى.
هذه الخصوصية تجعل
من الأدب الفائق النص في العالم العربي مختبرًا مزدوجًا: فهو من جهة اختبار للقدرة
على نقل اللغة العربية إلى فضاءات رقمية تفاعلية، ومن جهة أخرى مرآة لتمثيل القارئ
العربي كفاعل لا كمستهلك فقط. وهنا يبرز السؤال: هل يمكن لجمالية عابرة أن تؤسس لثقافة
رقمية عربية أكثر حيوية، أم أن هشاشة هذه النصوص ستجعلها مجرد تجارب عابرة لا تترك
أثرًا؟
إن ما يمنحه الأدب
الفائق النص للقراءة العربية والعالمية ليس مجرد نصوص جديدة، بل درس في فلسفة الجمال.
فبدلًا من أن يكون الجمال وعدًا بالديمومة، يصبح أثرًا لحظيًا يشبه ضوءًا ينكسر على
زجاج نافذة ثم يختفي. هذه الجمالية العابرة ليست نقيضًا للبقاء، بل شكلًا آخر منه،
إذ تعلمنا أن التلاشي ذاته قد يكون نوعًا من الخلود، وأن الأدب قد يزهر في لحظة قبل
أن يذبل، لكنه يترك في الذاكرة أثرًا لا يمحوه الزمن.
✦ مراجع أساسية:
Landow, George
P. Hypertext: The Convergence of Contemporary Critical Theory and Technology.
Johns Hopkins University Press, 1992.
Kirschenbaum,
Matthew. Mechanisms: New Media and the Forensic Imagination. MIT Press, 2008.
Eco, Umberto.
Opera Aperta. Bompiani, 1962.
Barthes, Roland.
La mort de l’auteur. 1968.
Haraway, Donna.
Staying with the Trouble: Making Kin in the Chthulucene. Duke University Press,
2016.
زهور كرام، الأدب الرقمي:
أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيمية. أفريقيا الشرق، 2013.
0 التعليقات:
إرسال تعليق