الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، سبتمبر 04، 2025

قراءة سياسية لغياب تبون عن منصّات بكين وموسكو وواشنطن: عبده حقي


لا يبدو تكرار غياب الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون عن كبرى المنصّات الدولية مسألة بروتوكولية عابرة. إنّه مؤشر سياسي على «خيار تموقع» تتداخل فيه حسابات الشرعية الداخلية، وتوازنات المؤسّسة العسكرية – البيروقراطية، ورؤية محافظة لإدارة المخاطر في بيئة إقليمية مضطربة. ومقالي هذا يقرأ دلالات الغياب وآثاره على نفوذ الجزائر، وعلى معارك السردية الجارية في شمال أفريقيا والساحل.

لقد أعاد تبون تثبيت ولايته في خريف 2024، غير أنّ نسب المشاركة الضعيفة غذّت انطباعاً باستمرار هشاشة القاعدة الاجتماعية للنظام، وهو ما يقيّد هامش الحركة الخارجية في المحافل المفتوحة والتفاعلات غير القابلة للضبط. في مثل هذا السياق، تميل السلطة إلى تقليل اللحظات العلنية عالية المخاطر (قمم تُتيح مساءلات ولقاءات غير متوقّعة) وتُفضّل بدلاً منها صيغاً مضبوطة: مقابلات دورية محليّة، ومكالمات هاتفية، وزيارات تقنية على مستوى الوزراء.

ومما لاشك فيه أن الجزائر سعت إلى تنويع رافعاتها بالاتجاه شرقاً، فتقدّمت للانضمام إلى منظومة «بريكس» واستثمرت في بنكها التنموي، معتبرة ذلك غطاءً خطابياً لـ«الاستقلالية الاستراتيجية». لكنها في المقابل لم تعوّض كلفة الغياب عن المنصّات الغربية أو المتعددة الأطراف ذات التأثير الإعلامي والسياسي الأعلى. صحيح أنّ تبون زار بكين وموسكو في صيف 2023، لكن التواصل الحيّ في القمم الدولية ظلّ محدوداً لاحقاً، ما أبقى أثر الزيارات في حدود البيانات المشتركة أكثر منه في دينامية حضور مستدام.

إن هذه التعديلات المتكرّرة في رأس الجهاز التنفيذي حساسية التوازنات داخل الحكم، تشير إلى سياق يحتاج إلى تركيز داخلي أكثر منه إلى انخراط خارجي صاخب. إقالة رئيس الحكومة الأخيرة مثال واضح على هذا المنحى. يُضاف إلى ذلك موجات شدٍّ وجذب مع أوروبا، خصوصاً فرنسا، حيث أصبحت البيئة الدبلوماسية أقل وُدّاً وأشدّ حساسيةً لصور الظهور العلني.

الغياب عن منصّات دولية في بكين أو موسكو أو واشنطن لا يُقاس فقط بعدد الصُوَر التذكارية، بل بقدرة الدول على هندسة السردية السياسية: مَن يتحدّث؟ وعلى أيّ منبر؟ وأمام أي جمهور دولي؟ هنا تتكثّف الخسارة الرمزية في ملفَّين أساسيَّين وهما:

المغرب/الصحراء: في لحظة تتراكم فيها اعترافات أو تأييدات لخيار الحكم الذاتي المغربي، يخلق الغياب فجوات دعائية تستثمرها الرباط وحلفاؤها، فيما تضطر الجزائر إلى الدفاع من الخلف.

الطاقة والصفقات الكبرى: سوق الغاز الأوروبي متقلّب وقابل للمقايضة السياسية. الظهور النشط في قمم واشنطن وموسكو وبكين يفتح أبواب تفاهماتٍ سريعة لا تُبرَم عبر القنوات البطيئة.

خامساً: لماذا تُفضِّل الرئاسة «حضوراً بلا مخاطرة»؟

يمكن تلخيص المنطق الحاكم بثلاثة اعتبارات رئيسية:

تقليل قابلية التعرّض: كلّ قمة مفتوحة تزيد احتمال المفاجآت أو الاصطفافات غير المرغوبة.

أولوية الاستقرار الداخلي: إعادة تدوير النُخب وضبط المساحات الإعلامية تسبق الانخراط الخارجي.

رهان القنوات الثنائية: البناء على ثقل الغاز والسوق الدفاعية مع روسيا والصين، ومنفذ تمويلي عبر «بنك التنمية الجديد»، مع تجنّب ضجيج القمم.

غير أنّ هذا الخيار يترك «الفضاء الرمزي» فارغاً أمام خصوم الجزائر الإقليميين. تظهر الرباط كفاعل «مُبادر» ومتواجد على المنصّات، فيما تُقدَّم الجزائر كدولة «تحاور من وراء الستار». ومع اشتداد تداخل ملفات الساحل وليبيا والنيجر، تُصبح الصورة جزءاً من النفوذ.

سادساً: سيناريوهات الـ12–18 شهراً المقبلة

انكفاء مدروس: تواصل الجزائر سياسة تقليل الظهور، مع تعظيم التموقع في «بريكس» وتمتين محاور الطاقة الثنائية. الكلفة: استمرار نزيف رمزي في شمال أفريقيا.

انفتاح مُدار: مشاركة انتقائية في قمم بعائد ملموس، مقرونة بحملة سردية تُعيد تأطير صورة الجزائر كـ«ضامن استقرار» في الساحل والمتوسط.

مقايضة تكتيكية: استخدام أوراق الطاقة والهجرة والتعاون الأمني كجسور نحو العواصم الغربية لإعادة تدوير العلاقات، مع الإبقاء على «خطاب الاستقلالية» داخلياً.

يمكن فهم «سياسة الغياب» كاختيار دفاعي لحماية توازن داخلي حساس في زمن إقليمي صعب. غير أنّ اقتصاد الصورة صار جزءاً لا يتجزأ من صناعة النفوذ. في شمال أفريقيا، حيث تتصارع السرديات بقدر ما تتنافس الجيوسياسات، يصبح الظهور المُحسوب على المنصّات الكبرى أداةً لا تقل قيمةً عن اتفاق غازٍ أو صفقة تمويل. إن التحدّي أمام الجزائر ليس في كسر استقلاليتها، بل في ترجمة هذه الاستقلالية إلى حضورٍ مُقنع: حضور يَرفع الكلفة على الخصوم، ويُطمئن الشركاء، ويُعيد تعريف الدور الجزائري خارج قاعات الاجتماعات المغلقة.

0 التعليقات: