في المغرب، لا يكاد يمر يوم دون أن يتجدد النقاش حول التقاعد. وبينما ينتظر الموظف والعامل سنوات طويلة كي يصل إلى لحظة الراحة بعد مسار مرهق، يفاجئنا البنك الدولي بتقرير جديد يضع المغرب أمام معادلة صعبة: الشيخوخة السريعة للسكان، وضغط هائل على صناديق التقاعد، وحلّ مثير للجدل يقترح رفع سن الإحالة على المعاش إلى 70 سنة.
قد تبدو الفكرة في ظاهرها تقنية محاسباتية مرتبطة بالأرقام والتوازنات المالية، لكنها في عمقها قضية اجتماعية وإنسانية من الدرجة الأولى. فهل يعقل أن يتحول حلم التقاعد، الذي طالما كان مكافأة لنهاية الخدمة، إلى عبء مؤجل يُدفع ثمنه من صحة العمال وأعمارهم؟
التقرير يُحذر من أن المغرب مقبل على مرحلة غير مسبوقة من التحولات الديمغرافية: عدد كبار السن يتزايد بسرعة، ونسبة الإعالة مرشحة لأن تتضاعف خلال العقود المقبلة، ما يعني أن كل عامل سيكون مُطالبًا بتحمل عبء مالي واجتماعي أكبر. هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات باردة، بل مؤشرات على أزمة قادمة قد تهدد تماسك المجتمع كله.
لكن السؤال الجوهري هنا: هل يكفي رفع سن التقاعد لحل المشكلة؟
الجواب ليس بهذه البساطة. فالمغربي الذي يُحال على التقاعد اليوم بالقطاع الخاص، غالبًا ما يخرج منهكًا من سنوات عمل قاسية، وفي كثير من الأحيان وهو يعاني من أمراض مزمنة. التقرير نفسه يعترف أن ربع المغاربة فوق 55 سنة مصابون بأمراض مزمنة، وهي نسبة تفوق اليابان وألمانيا، وهما بلدان يملكان أنظمة صحية متقدمة وبنيات اجتماعية صلبة.
المعادلة إذن معقدة: إذا كان من الضروري التفكير في استدامة صناديق التقاعد، فلا بد أن يكون الإصلاح شاملاً، يأخذ بعين الاعتبار جودة الحياة، والرعاية الصحية، وظروف العمل، وعدالة الأجور. لا يمكن اختزال الأزمة في رفع سن التقاعد فقط، وكأن المشكلة مجرد سنوات إضافية من الخدمة.
ثم هناك جانب آخر لا يقل أهمية: ثقة المواطن. فالمغاربة تابعوا عبر السنوات كيف واجهت صناديق التقاعد اختلالات كبرى نتيجة سوء التدبير والاختيارات السياسية المتعثرة. فهل يعقل أن يُطلب من المواطن دفع الثمن من صحته وشيخوخته، بينما لم تُحاسَب بعد الجهات المسؤولة عن الهشاشة المالية لهذه الصناديق؟
إن النقاش حول التقاعد في المغرب ليس مجرد نقاش حول سن الإحالة على المعاش، بل هو نقاش حول العدالة الاجتماعية، حول حق الإنسان في الراحة بعد عمر من العمل، وحول دور الدولة في حماية الفئات الهشة. إذا كان البنك الدولي يقدم توصياته من زاوية محاسباتية بحتة، فإن على المغرب أن يبتكر حلولًا تتناسب مع واقعه الاجتماعي والديمغرافي والاقتصادي، بعيدًا عن النقل الحرفي لنماذج مفروضة من الخارج.
في النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا أمام كل مغربي: هل سنقبل أن نعمل حتى السبعين باسم "الإصلاح"، أم سنطالب بإصلاح حقيقي يبدأ من محاربة الفساد، وتحسين مردودية الصناديق، والاستثمار في صحة المواطن، قبل التفكير في تمديد سنوات عمله؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق