في كل عمل فني يسكن سؤال قديم، سؤال يطارد الفلاسفة منذ فجر الفكر: هل يمكن للقصيدة أن تعلّم، واللوحة أن تكشف، وللموسيقى أن تقودنا إلى ضفاف معرفة لا يبلغها العقل وحده؟ أم أن الفن مجرّد زينة على جدار الوجود، لا يحمل من الحقيقة إلا بريقها العابر؟
كان أفلاطون يرى في الفن ظلاً للظل، صورة تخدع العين وتضلّل العقل. بالنسبة له، الفنان ليس عارفاً بل صانع أوهام. لكن خلفه، وقف أرسطو ليرد بأن التراجيديا ليست خدعة، بل تجربة وجودية تفتح القلب على تطهير داخلي، تجعل الإنسان أقدر على مواجهة ذاته والعالم. هنا يصبح المسرح ليس ساحة للوهم، بل مسرحاً للحكمة.
في عصور الحداثة، تشكك
العقلانيون في كل ما لا يستند إلى برهان. ديكارت مثلاً لم يجد في الخيال سوى خطراً
يهدد اليقين. لكن الرومانسيين قلبوا الطاولة: أعلنوا أن في الخيال قوة تعادل المنطق،
وأن العاطفة ليست نقيضاً للمعرفة بل وجهاً آخر لها. فالقصيدة التي تفتح جرحاً في القلب
قد تكشف عن حقيقة أكثر عمقاً من معادلة رياضية.
الفن لا يقدّم لنا
الحقائق في كتب مدرسية، بل يوشوش بها في تفاصيله:
في ضربات الريشة نتعلم
معنى الضوء والظل، لا كظاهرة بصرية فقط، بل كاستعارة للحياة.
في صدى الموسيقى نكتشف
تدرّجات عواطفنا، ونختبر صدقها أو وهمها.
في الرواية نعيش حيوات
لم نُكتب لها، فنخرج منها بأعين جديدة على العالم.
أعظم ما يمنحه الفن
ربما ليس الجمال وحده، بل قدرته على تدريب الروح على الأخلاق. حين نقرأ رواية عن معاناة
غريب، نصبح أكثر استعداداً للتعاطف. حين نتابع مأساة مسرحية، نواجه أسئلة العدالة والذنب
كما لو أننا نعيشها. هكذا يتحوّل الفن إلى مختبر للقيم، يصقل إنسانيتنا دون أن يلقّنها.
صحيح أن بعض النقاد
يرون في الفن معرفة سطحية، أو يلومونه لأنه بلا براهين ولا حجج. لكن هل تحتاج كل معرفة
إلى معادلة كي تُصدَّق؟ أليست هناك معارف تنبثق من الدهشة، من الرجفة التي تهزّنا أمام
لوحة، من الصمت الذي يتركه الشعر في داخلنا؟
الفن لا يعدنا بيقينيات
صلبة، لكنه يزرع فينا يقظة، يوقظ حواسنا ويفتح أعيننا على احتمالات الوجود. إنه معرفة
من نوع خاص، لا تُبنى بالحجج بل تُسكب فينا عبر الخيال والوجدان. معرفة ليست في الكتب
وحدها، بل في اللوحات والأغاني، في الحكايات التي نرويها، وفي التجارب التي نعيشها
كأنها مرآة للعالم ولأنفسنا.
0 التعليقات:
إرسال تعليق