الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، سبتمبر 26، 2025

من يحدد أولويات الصحافة في عصر المجمّعات الإخبارية؟عبده حقي


إن ما يوجه نظر القارئ لم يعد عنواناً في الصفحة الأولى أو افتتاحية رئيسية، بل هو خوارزمية خفية ترتّب الأخبار وفقاً لمعادلات معقدة، تجعل الأولويات الصحفية خاضعة للمعايير الرقمية أكثر مما هي خاضعة لقرارات التحرير التقليدية. إن صعود المجمّعات الإخبارية مثل "غوغل نيوز" أو "أبل نيوز" لم يغيّر فقط طريقة الوصول إلى المعلومة، بل أعاد تشكيل موازين القوى بين الصحفي، القارئ، ورأس المال التكنولوجي.

تتأسس هذه الخوارزميات على معايير تبدو محايدة للوهلة الأولى: مدى التفاعل، سرعة التداول، تطابق الكلمات المفتاحية، أو مصداقية المصدر. غير أن "الحياد" هنا ليس سوى وهم رياضي؛ إذ تتحكم الخوارزمية، مثل محرّر غير مرئي، في توجيه الرأي العام نحو أحداث بعينها وتهميش أخرى. ويذكّرنا هذا بما أشار إليه الباحث

 نيكولا دياكوبولوس في كتابه أتمتة الأخبار حين شدّد على أنّ الأتمتة لا تلغي الانحيازات، بل تعيد إنتاجها في قوالب أكثر دقة وخفاء.

إن ما يحدث هو انتقال للسلطة من غرفة التحرير إلى الكود. فالصحفي الذي كان يختار خبر الصفحة الأولى، يجد نفسه الآن أسيراً لقرارات نظام تقني يحدّد ما إذا كان عمله سيُرى أم يُدفن في قاع محرك البحث. وبذلك يصبح الخبر رهينة للمنطق الحسابي الذي قد يفضّل فضيحة رياضية عابرة على تحقيق استقصائي معقّد، لمجرد أن الأولى تضمن "نقرات" أعلى. إن هذا الوضع يشبه ما وصفه بيير بورديو في تحليله لحقل الصحافة حين تحدّث عن "الاستلاب أمام منطق السوق"، غير أنّ السوق اليوم لم يعد فقط اقتصادياً، بل أصبح أيضاً خوارزمياً.

لكن الخوارزميات لا تحدد فقط ما يظهر، بل تحدد أيضاً كيف يُقرأ. فآليات الترتيب تولّد نوعاً من الإيقاع المعرفي لدى الجمهور: سرعة، تقطّع، تنقل من خبر إلى آخر دون عمق. وهنا تتبدى المفارقة الكبرى: المجمّع الإخباري الذي يَعِد بتوسيع أفق المعرفة، قد يخلق في الواقع ثقافة "العناوين السريعة" ويضعف تقاليد القراءة النقدية. لقد حذّرت تقارير Reuters Institute Digital News Report  "تقرير إخباري رقمي من معهد رويترز " من هذه الظاهرة، مؤكدة أن غالبية القراء لم يعودوا يتجاوزون العنوان أو السطر الأول من الخبر.

رغم ذلك، لا يمكن اختزال المشهد في نظرة تشاؤمية خالصة. فهناك أيضاً إمكانات إيجابية: المجمّعات تتيح للصحافة المحلية الصغيرة أن تنافس الكيانات الكبرى إذا نجحت في التكيّف مع خوارزميات الانتقاء، كما تمنح القراء إمكان الوصول إلى تنوّع من المصادر لم يكن متاحاً في الماضي. الأمر يشبه مكتبة ضخمة مفتوحة على مدار الساعة، لكنها مكتبة يوجّهك فيها أمين مكتبة آلي، يقرر ما قد تراه وما قد يبقى في الرفوف الخلفية.

في ضوء هذه التحولات، يطرح السؤال نفسه: هل على الصحافة أن تقاوم هذا المنطق أم أن تتكيّف معه؟ هناك من يرى أن الحل يكمن في تعزيز الشفافية الخوارزمية، أي إلزام الشركات التكنولوجية بالكشف عن معايير ترتيب الأخبار، وهو مطلب دعت إليه تقارير اللجنة الأوروبية  حول مستقبل الإعلام الرقمي. فيما يذهب آخرون إلى ضرورة تطوير أدوات "ذكاء صحفي" مضاد، قادرة على فهم آليات المجمّعات والعمل داخلها دون فقدان البعد التحريري والمهني.

يبقى المؤكد أن الصحافة في زمن المجمّعات لم تعد فنّ السرد وحده، بل أصبحت أيضاً فنّ التفاوض مع الخوارزمية. وما لم تستطع المؤسسات الإعلامية أن تستعيد زمام المبادرة، فإن أولويات الصحافة ستظل مرهونة بمنطق الأصفار والواحدات، تماماً كما يظل المسافر في صحراء شاسعة مرهوناً بالبوصلة التي بين يديه، حتى لو لم تخبره دوماً بالحقيقة الكاملة.

 

0 التعليقات: